كتب / أحمد شعبان.
الناقد الفني على مستوى العالم هو ذلك الشخص الذي يشارك الكاتب في فرض سلطة الإبداع على المجتمع، ويتحمل معه تبعات هذه المسؤولية، ولن تكون المسؤولية مناصفة بالتأكيد، ولكنها حسب قدرات المبدع فنا وقدرات شريكه المبدع نقدا؛ وفي مرحلة ما كان نقد عميد الأدب العربي أهم من رواية (بداية ونهاية) لمبدعها نجيب محفوظ، فسلطة الجملة عند طه حسين تفوق سلطة الرواية عند أمير الروائيين العرب، فكانت هذه الشراكة تعتمد على رأسمال فكر العميد أكثر من اعتمادها على روعة فكر نجيب محفوظ.
وكانت سلطة غناء أم كلثوم (الأطلال) أكبر من سلطة إبراهيم ناجي، فنبهت أم كلثوم لأهمية شعر ناجي، ولم تقدم وزارة التربية والتعليم نصوص ناجي لطلاب المدارس إلا بعد غناء أم كلثوم، وغناء النصوص أو تمثيلها أو عمل سيناريوهات لها نوع من الاستحسان الذي يدخل في دائرة النقد القديم، والذي يعطي للعمل سلطة مجتمعية ليست لغيره من الأعمال التي لم تحظ بمثل هذا الاستحسان.
ولم يكن طه حسين بالريفي الذي تعلم في باريس ومونبليه حسبما يروج الأوربيون له، لكنه كان أشبه بعرابي الذي جاء ببذور المانجو من جزيرة سيلان ليزرعها في أرض مصر لتنتج محصولا من المانجو المصرية، ولم يكن يُطَعّمُ أحاديثه بنظريات غربية معلبة، بل يقتطف بذرة ليزرعها في أرض العربية لتثمر نباتا عربيا، وهذا ما كان يزعج الانجليز والأتراك والمتحجرين، فدارت المعارك السياسية معه على أساس أنها معارك أدبية، ولم تكن كذلك إلا في مظهرها، بينما جوهرها كانت رغبة الأحزاب في إبعاده عن الساحة الفكرية والتي لم يوفقوا في الوصول إلى هدفهم؛ لصلابة موقفه وعلو همته وصحة علمه وتأثيره في الرأي العام المجتمعي أكثر من تأثيره في ساحة السياسة والتي أصبح فيها وزيرا للمعارف المصرية، وكانت أهم وزارة في مصر في ذلك العصر.
فهم العميد أن الأدب الغربي مبني على الأسطورة والتخييل أكثر من بنائه على الحقائق والحوادث والوقائع، ربما هذا الذي جره للتشكيك في شعرنا العربي قبل الإسلام، ولكنه عاد مسرعا مصححا لمساره وأفكاره، ولم يعتمد كثيرا على الأدب الغربي أو قواعده في نقد أدبنا العربي، وعيا منه بأن أدبنا العربي أكثر أهمية وأنبل مقصدا، بالإضافة إلى ارتباطه بواقع الأمة العربية منذ نشؤه.
وحينما مرض الرجل _ رحمه الله رحمة واسعة _ كانت سيوف الغرب قد استلمتها راحات هزيلة لا تقترب من العربية إلا في اعتراف أشبه باعتراف الكهان بالصدق، فأخذوا عن إليوت وشيلي وشكسبير ورامبو ودانتي وجوتة وغيرهم، وتركوا أبا نواس وأبا الطيب وأبا العلاء وابن جني والجاحظ والجرجاني وابن طباطبا العلوي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، اتباعا منهم للظاهرة الإعلامية التي يمتلكها الغرب، بالإضافة إلى سلطة الاستعمار المستبدة على وطننا العربي، والتي جعلتهم أصحاب سلطة سياسية دون أن يمتلكوا السلطة الفنية، فكانت المصائب مركبة، وكلما نفيت عنهم سلطة استلموا سلطة أكبر منها.
ولم تتضح ضحالة الفكر الغربي في وقت كما تتضح لمن عنده بعض عقل في هذه الأيام، فعلومهم حروب وقتل، وكلامهم سب وقذف، وقانونهم نهب واغتصاب، ومبادئهم أصوات جوفاء وليست حقائق على أرض الواقع؛ هذه التقدمة ستغضب الكثيرين ممن يتكسبون من قنوات الغرب الفضائية وأغلبها للجاسوسية تحت اسم التنوير، وكذا من يكتبون في صحف الغرب المنافية لكل صدق وإنسانية.
ربما تصلح هذه المقدمة للحديث عن حرب روسيا والغرب، أو مقدمة للحديث عن الحرب العالمية الثالثة التي تدور في كل جنبات الكرة الأرضية ويكذبون على الشعوب (أن هناك حربا بين روسيا وأوكرانيا)، والحق أن الحرب لقتل الفقراء والضعفاء والمساكين وتشريد وتجويع وتخويف وإرهاب وتدمير، لتنام الشعوب على جوعها، ويغمض الصبية أعينهم على خوفهم، ويتمنى الشيوخ وكبار السن مثلي الموت.
هذا ما يحدث في العالم بالتحديد وبالاختصار.
أما ظاهرة الاتصال/ الانفصال في الشعر والسرد فلها مستويان هما : أولا المستوى النصي، ويقصد به اتصال السارد بفن الشعر وكأنه يكتب رواية شعرية، في الوقت الذي يخبرنا أنه منفصل عن الشعر لأنه يكتب سردا، والعكس صحيح، أما المستوى الثاني فهو المستوى الواقعي وعلاقة النص بخارجه، فشخصية الرواية عربية ولكنها تقوم بأفعال غير عربية، فهي متصلة بالواقع العربي ومنفصلة عنه، والشاعر ينتظر محبوبته ويعلم أنها لن تأتي، ولكنه سوف ينتظر، فهو مرتبط بمشاعره ومنفصل عن واقعه، ويكذب عينه ويصدق نبضه فهو في حالة اتصال/ انفصال مستمرة.
وقد قصدت إلى رواية (فوق الجاذبية) للكاتب العربي السعودي/ أحمد الشدوي لأمسك بخيطين هما: الخيط الأول، حالة الاتصال/ الانفصال في السرد من جانبيه الفني والواقعي، والخيط الثاني، كيف استطاع النص أن يكون في المنتصف تماما بين الأفكار والمفردات، مما جعل الخطاب الروائي في هذه الرواية خطابا أقرب للعالمية منه إلى العربية الحالية.
كما قصدت لنص شعري للشاعر العربي المصري / عبدالعزيز جويدة، لأمسك بخيط واحد وهو (الاتصال/الانفصال في القصيدة) فالنص سردا في تشكيل إيقاعي وتصويري، فهو يتصل بالشعر وينفصل عنه، ويتصل بالسرد وينفصل عنه، وهذا النص موسوم بــــ(تاج الملك)، يقول فيه:
لي نصفُ ما تركَ الحنينُ بقلبِها
ولها بقلبي
ضعفُ ما فينا تركْ
حكمُ الأنوثةِ واجبٌ في شرعِنا
تبقَى الأنوثةُ دائمًا تاجَ الملِكْ
إن الأنوثةَ رحمةٌ من ربِّنا
إن غيَّبوها يأثمونَ
وفوقَهم نزلَ البلاءُ
لكي يُعاقبَ من هلَك
أنثى لها طبعُ الخيولِ
وكلما صهلتْ بروحي
حطَّ في قلبي ملَك
أنا كلما حاولتُ أهربُ
من جنونِ حنينِها
نصبتْ لقلبي بينَ عينيها شرَكْ
واللهِ ما من مرةٍ
خَيرتُ قلبي أن يكونَ لغيرِها
إلا وماتَ من الضحكْ
أنا قلتُ للصيادِ يومًا وجهتي
في ضوءِ عينيها سأهربُ
يا صديقي فارتبَكْ
وأجابني :
لو كنتَ حقًا فاعلاً
ماذا تريدُ الآنَ مني
فأجبتُهُ متبسمًا
عندَ الفرارِ إذا سمحتَ بسرعةٍ
تُلقي على قلبي الشبكْ
فأجابني متعجبًا
جربتَ تحيا في الحياةِ بدونِها ؟
قلتُ لهُ يا ويلتي
أبغيرِ ماءٍ سيدي يحيا السمكْ؟
أنثى لها في العشقِ تقويمٌ
وأيامٌ حُرُمْ
من يومِ أن قالتْ ليوسفَ : “هيتَ لك”
أُنثى تحلِّقُ في السماءِ وكلما
قلتُ لها قلبي يخافُ من الهوى محبوبتي
قالتْ بجرأةِ واثقٍ
في العشقِ أترك لي يدَكْ
أغضبتُها يومًا
وقلتُ لشيخِنا في العشقِ
قلْ لي ياتُرى
هل للخصامِ مع الهوى كفارةٌ
فأجابني:
نعمْ صيامٌ أو قيامٌ أو نُسُكْ
قلتُ لهُ
حتى وإن سفكت دمي ؟
فأجابني متبسمًا
إن كنتَ لا تدري النزالَ وفنَّهُ
ماكنتَ تأتي المعترَكْ
يا عاشقًا قلْ للحبيبةِ في الهوى
طوبى لكم
ولقد عفونا في الهوى عمن سفكْ
انتهى نص عبد العزيز جويدة.
وتأتي رواية ( فوق الجاذبية) لأحمد الشدوي في ست وأربعين صفحة ومئتين من القطع المتوسط وتتناول حياة العربي حينما يقبل التحديات في كل بلدان العالم شرقا وغربا، علما وتجارة، ليست لديه القابلية للاستعمار كما قال الفيلسوف الجزائري العظيم (مالك بن نبي)_ رحمه الله تعالى رحمة واسعة_ بل لديه القابلية للتحرر والسمو حتى درجة السيطرة على معارضيه بالعقل لا بالسيف، وبالفكر لا بالسجن، ويقدم الخير لكل المجتمعات لأنه مسئول أمام إنسانيته وضميره قبل أن يكون مسئولا أمام دولته ووطنه، فهو يؤمن بذاته التي تمتلك قدرات غير محدودة، ويؤمن بعقله الذي يمتلك أفكار سابقة لكل أفكار الشعوب من حوله .
للنصين حالات متعددة من الانفصال/الاتصال تحتاج لطول شرح، ولكنه شرح في غاية الأهمية بالنسبة لي في وقتنا الحالي، حيث الضباب اشتد عوده، والعقبات أنجبت كثيرا ولم تجد من يوقف انجابها، أو يخفي صغارها، بل سادت وشادت حتى ظننتها استوطنت، ولن تختفي العقبات بالكلمات، بل تختفي بفهمنا لأسبابها وإزالة جحورها وأعشاشها، وهذا ما سوف أتحدث عنه في الجزء الثاني _ إذا أراد الله وشاء _ في الأيام المقبلة.