كتبت -اسماء رزق
د.عبد اللطيف رويان – باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف –
مقدمـة:
يسود الاعتقاد أن المؤسسات العقابية ليست سوى منشآت محاطة بأسوار مرتفعة تتخللها أبراج حراسة ومراقبة، يتم فيها حبس الأفراد الذين صدرت في حقهم تدابير قضائية سالبة للحرية داخل عنابر وأجنحة،في حين يتجاوز الأمر مستوى هذه الرؤية التبسيطية العواميّة، التي تحجب معطىً أساسياً يهم الدور المحوري لهذه المؤسسات في مجال الإصلاح وإعادة التأهيل، بما ييسر إدماج المعتقلين داخل دورة الحياة الاجتماعية الطبيعية، والتخلي عن خيار العود للجريمة والانحراف. بل يكاد يكون هناك تعمد لطمس هذا الدور،ليصبح مجرد شعار مبتذل يؤثث الملصقات الدعائية للملتقيات والمؤتمرات والصالونات الثقافية الموسمية ؛ حتى غدت الفكرة الأساسية نفسها لإعادة التأهيل داخل المؤسسات العقابية تستند إلى رؤيتين صادرتين عن صنفين من السجناء، لا يبدو أن أيًا منهما تشي بالصحة والصلاحية، لكثرة ما هما مبتذلتان:
الأولى افتراضية توقعية، مؤداها أن السجين الذي أطلق سراحه،ربما لن يرغب أبدًا في العودة إلى السجن كمكان مقترن بالخطر والمشقة، بدعوى أنه سيتذكر دوما ، أن ليس بوسعه التمتع بالحرية التي يمارسها خارج السجن، عقب حشره في أفق فيزيقي ضيق جداً لا يتعدى عشرة أمتار. ويجد هذا التفسير التوقعي ضالته مبثوثة في القول بأن أغلب السجناء ليست لديهم القدرة على التحمل، رغم التفاوت الواضح في الدرجة بين سجين وآخر. أما من يفتقدون منهم هذه القدرة، فهم يعيشون طول الوقت في هم وقلق دائم من خوف العودة إلى السجن.
أما المقاربة الثانية فإنها استرجاعية، تنطلق من مرارة التجربة السجنيّة التي تترك لدى المفرج عنه انطباعًا دائمًا بأن يفعل كل ما بوسعه لتجنب ذلك المسلك الإكراهي الذي يبدأ بمخفر الشرطة وينتهي بمحطة السجن، وكأن الأمر أشبه بحلقة مفرغة، تطارد ذاتها من بداياتها وحتى نهاياتها.
في هذه المقالة سنحاول تلمّس وإدراك بعض نواقص إعادة التأهيل، لكن قبل ذلك يجب الإشارة إلى أن السمة الأبرز لعملية إعادة التأهيل هي فهم واستيعاب الأسباب الجذرية لارتكاب فعل إجرامي، ومن تم توفير السند الكافي لمخالف القانون لتقويم سلوكه بالتركيز على مجموعة متعددة من الاعتبارات الاجتماعية،والاقتصادية،والسياسية،وحتى السيكولوجية والأخلاقية،مما يساعده على الالتحاق بركب الحياة السوية بكثير من الإيجابية، ولأن كان الهدف المتوخى هو إعادة التأهيل،فلابد أن نبدأ بتحقيق هذا الهدف منذ مرحلة البحث التمهيدي،على أن تبقى مستمرة إلى ما بعد الإفراج عبر مراحل سير الدعوى وتنفيذ العقوبة. لذا سنعرض لهذا الموضوع في نقطتين،الأولى تتناول دواعي طرحه،فيما تنصب الثانية على تبيان بعض العقبات المادية التي تعرقل عملية إعادة تأهيل السجناء،لاعتقادنا بأنها على وجه التخصيص هي أقل العقبات نصيباً في ساحات النقاش العمومي، وحلحلتها ستظهر الثغرات والفجوات القائمة بين راهن إعادة التأهيل ومستقبله المأمول،كما سيضفي عليها بالنتيجة صفة الإلزام.
دواعي طرح موضوع”إعادة التأهيل”.
جميعنا نشترك في الاعتقاد أن محمول الأسباب التي سنسوقها بإيجاز متضمن من قبل في تصورنا للموضوع،بعدما بات هناك يقين راسخ أن ضرورة إعادة تأهيل المجرمين يتأثر بأسلوب وطرق إدارة أنظمة العدالة الجنائية، سيما قطاع إدارة المؤسسات العقابية وتصميمها؛ إذ نجد مثلا أن نظام الولايات المتحدة،غيّر المقاربة العقابية لتصير إصلاحية تسعى إلى إعادة تأهيل السجين ودمجه من جديد في مجتمعه،حتى أنه تم التغاضي عن استعمال مصطلح”السجن” واستبداله ب”المؤسسة الإصلاحية” كصيغة مُخفّفة،لإبراز ذلك الامتداد بين تنفيذ العقوبة ومقاصد السلطتين القضائية والتشريعية،وفي الوقت ذاته الحد من التداولية المجحفة للمصطلح المثقلة بالوصم والصور النمطية المتحيزة،لأن المؤسسات العقابية لم تعد سياقياً ذات فاعلية في تقويم الجانحين والمنحرفين،بل تحولت إلى أماكن لتفريخ السلوك الخارج عن القانون؛ ولأن الأبحاث قد أظهرت من جهة أخرى ،لسوء الحظ، أن الوقت الذي يقضيه النزلاء في المؤسسات العقابية لا يحقق المبتغى بالصورة المأمولة في إعادة التأهيل،لكون غالبيتهم سرعان ما يعودون إلى حياة الجريمة والجنوح بسرعة غير متوقعة،بسبب ظروف الاختلاط التي تسمح للمستجدين بتعلم طرق جديدة وأفضل لاقتراف الجرائم أثناء قضاء فترة محكومتيهم مع زملائهم المُدانين،حتى أنهم لاحقا يمكنهم إجراء اتصالاتهم والانخراط بشكل أعمق في امتدادات العالم السفلي للجريمة والانحراف.
أما بالنسبة للمفرج عنهم التائبين، فإنهم غالبا ما يفشلون في الحصول على دعم مجتمعي معنوي أو مادي،خصوصاً في الفترة الأولى التي تعقب الإفراج عنهم، والتي عادة ما تتسم بالهشاشة والتوتر. إن من يجد نفسه منبوذاً في المجتمع، سينخرط مجدداً في الجريمة بشكل أكثر حدة، بعد أن خبر أصول الإجرام داخل السجن باحتكاكه ببقية المساجين. وفضلا عن كل هذا وذاك،نجد برامج الإصلاح العقابي وإعادة التأهيل،إما أنها لا تكفي ولا تبلغ أهدافها في إصلاح المساجين بعد الإفراج عنهم لغياب رعاية لاحقة، بسبب قلة الإمكانات وهزال الاعتمادات المالية المرصودة،وبالتالي لا جدوى للاجتهاد في إصلاح المساجين وإعادة تأهيلهم داخل السّجون من الأصل؛ وإما أن النص القانوني نفسه غارق في الالتباس، عندما يسجل تعارضاً بين ما قرره وبين ما هو مشاهد في الواقع؛ دون أن نسقط من الحساب الإخفاق البحثي الأكاديمي لموضوع”إعادة التأهيل”،لأنه على ما يبدو لم ولن يحفز الباحثين والدارسين للعناية بتفاصيله.
عقبات إعادة تأهيل السجناء.
تعتمد عملية إعادة التأهيل على فلسفة الدولة وثقافة النظام الاجتماعي، وبالمعنى الأدق، فإن منطلق إعادة التأهيل يتبنى ثقافة المجتمع وخلفياته وأطره الوطنية كركيزة أساسية لتقويم خطط وبرامج موجهة للسجناء والسجينات. وبذلك، تكون عملية إعادة التأهيل خطة لتغيير اجتماعي تهدف إلى تأهيل السجين/ة ونقله من وضع اجتماعي سلبي إلى وضع إيجابي خلال فترة زمنية محددة (فترة العقوبة وأحيانا بعدها) من خلال اتخاذ مجموعة من التدابير الخاصة. لكن تحديّات حقيقية تواجه عملية إعادة التأهيل في المغرب نتيجة التغيرات المتسارعة في مجال الحقوق والحريات،والتطورات والإصلاحات الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية المتعاقبة. لذا، بات من الضروري رسم خطة تجمع بين توفير الطاقات والموارد المادية والبشرية الضرورية لإنجاح إعادة التأهيل من جهة، ووضع الأطر التشريعية التي تنظم هذه العملية من جهة أخرى. وبالرغم من أن التخطيط في مجال إعادة التأهيل يحتاج إلى الكثير من الواقعية والمرونة وكذا الدقة في تحديد ووضع البدائل، إلا أنه يجب اختيار البديل الأمثل حينما تظهر المستجدات الميدانية،وذلك بغية تحقيق الأهداف المعلنة مسبقاً.
إن إشكالية إعادة تأهيل السجناء تكمن في تصادم الأهداف المعلنة نظرياً مع الواقع الميداني، مما يؤدي إلى استنبات خلل وظيفي ومشاكل في التسيير. وبناءً على ذلك، يتم توضيح العقبات الموضوعية والمادية لعملية إعادة التأهيل.
تدني مستوى الكفاءة الإدارية والمهنية للعاملين بالمؤسسات العقابية:
لقد أثبت الدراسات المتخصصة أن المؤسسات العقابية على اختلاف أنواعها،وتباين طبيعة نزلائها،لم تنجح في القيام بمهمتها في تأهيل النزلاء،فكلهم يبدون بملامح واحدة كأنهم يرتدون أقنعة موحدة،رافضين لعملية الاندماج والخضوع لقوانين وتوجهات المجتمع،والسبب في ذلك أن هذه المؤسسات قد اعتمدت على نظم متجاوزة،يسودها الروتين،والتكرار،وعدم التطوير،وغياب الحوافز والدوافع حتى بالنسبة للقائمين على شؤونها،مما كان سببا في تدني كفاءتها والحيلولة دون بلوغ مقاصد أهدافها؛ لذلك يقع الإجماع اليوم على أن رصد الموارد المالية الكافية وإقامة المنشآت اللازمة لرعاية السجناء وإعادة تأهيلهم يأتي عبثا لا فائدة منه،إذا لم يتولى هذه المهمة كادر متخصص،ومن باب أولى أن توضع الخطط الكفيلة برسم البرامج الناجحة لإعادة تأهيل السجناء من قبل متخصص،وإذا تفحصنا خلفية الكادر المشرف على وضع هذه الخطط إلى عهد قريب،وجدناه لا يتمتع بالمؤهلات اللازمة لإجراء أبسط عمليات فحص وتصنيف النزلاء،فكيف يمكن أن يتم تكليفه بمهمة دقيقة ومعقدة كالرعاية والتأهيل.
إن غياب برامج إعادة تأهيل معقلنة تشمل كيفية الاستثمار في الرأسمال البشري وتأهيله مهنيا،تتشابك في نفس الآن مع برامج وانشغالات قطاعات متعددة،منها:الصحة والتعليم والتكوين المهني والمالية والشؤون الاجتماعية والأمن وغيرها،سيظل يُنتج مشاريع إعادة تأهيل محدودة المردودية،مما يُقلّل من فرص الإصلاح والاندماج عند النزلاء،وبالتالي يُسهم في تكريس ظروف الإقصاء والتهميش التي تؤدي بدورها إلى تفاقم حالات العود للجريمة والانحراف. ولا ينبغي أن نتناسى أن عمل المؤسسات العقابية يجب أن يظل ضمن إطار أخلاقي،لأن المبدأ الأساسي لتسيير هذا الصنف من المؤسسات هو إدارة العنصر البشري،أي موظفين ونزلاء على حد سواء، ولا يمكن تحويل أساليب المعاملة العقابية والعمليات التي تستهدف تأهيل السجناء وتعديل سلوكهم إلى خلفيات قمعية استغلالية قائمة،لأن ذلك يُكرس ضعف الكفاءة الإدارية والعبثية وما ينجر عن ذلك من عشوائية في التسيير.
إن الوظيفة الإصلاحية التأهيلية للسجن، لا تقف عند استحضار بُعد إعادة الإدماج والتأهيل للنزلاء فقط، بل يجب أن تشمل حتى الموظفين على اختلاف درجاتهم، عن طريق إخضاعهم لدورات تكوين مستمرة، من أجل اكتساب مؤهلات جديدة بغرض استكمال أو تحيين تكوينهم الأساسي، وتكييفهم مع ظروف ومتطلبات وظيفية ذات متغيرات تتميز بفورة التغيير والتقلبات.
مشكلة الاكتظــــاظ:
لعل من أبرز المشكلات التي تواجه المؤسسات العقابية في المغرب هو مشكلة الاكتظاظ، وذلك على الرغم من نهج القطاع الوصي في تبني استراتيجيات موضوعية وهادفة للتفاعل مع المستجدات التي يمكن أن تضيف قيمة مضافة، مثل استبدال المؤسسات السجنية القديمة والمتهالكة والتي تشكل خطرًا أمنيًا على النزلاء، مما ساعد في تحسين الطاقة الإيوائية، فضلا عن توفير ظروف إيواء وفقًا للمعايير الدولية، من حيث التهوية والإنارة والتغذية، وتتيح إعمال تصنيف ملائم للنزلاء وتنفيذ البرامج والأنشطة التأهيلية المخططة لفائدتهم.
ولكن بالرغم من المجهودات المبذولة، فإن مشكلة الاكتظاظ في السجون ما زالت قائمة بأبشع صورها، حيث يضطر بعض السجناء إلى النوم منكمشين “رأساً إلى عقب” في وضع يشبه وضع الجنين، ويتناوبون على النوم، أو ينامون واقفين، بسبب ضيق المساحة الناجمة عن الاكتظاظ، دون الحديث عن انعدام الخصوصية حتى في تأدية وظائف أساسية مثل استخدام مرافق المراحيض، ناهيك عن الإقامة في غرف أو زنازن تأوي أعدادًا تفوق طاقتها الاستيعابية.
تزداد المعاناة أكثر لدى النزلاء الذين يعانون من مشاكل نفسية نتيجة دخولهم السجن، مثل الاكتئاب النفسي والانطواء الاجتماعي والعزلة. ومن الممكن أن تنجم عن هذا الوضع، بصفة عامة، أو داخل العنابر بشكل خاص، مشكلات إضافية كثيرة مثل الشغب والعنف، مما يزيد من تفاقم المشاكل الأمنية والصحية وتأججها، ويصعِّب عزل النزلاء المصابين عن الأصحاء لضيق المكان من جانب، وللقصور في الخدمات الصحية من جانب آخر، إذ لا يساعد الضغط على هذه الخدمات على اكتشاف النزلاء المصابين في الوقت المناسب.
في ظل هذه الأوضاع الموسومة بالاكتظاظ والعنف وسوء التغذية وضعف الرعاية الصحية،لا بد أن تتنامى العديد من الظواهر والسلوكيات الإنحرافية،من أبرزها ظاهرة الشذوذ الجنسي التي تعد من أكثر الظواهر انتشاراً وشيوعاً في الفضاءات السجنية،وتعتبر فئة الأحداث والمستجدين من ذوي البنيات الجسدية الضعيفة الشريحة الأكثر عرضة للانتهاكات الجنسية، خصوصا مع اختلاط السجناء على مستوى الفئات العمرية،إذ نلامس فرقا كبيرا بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ وقد كشفت العديد من التقارير الصادرة عن بعض الهيئات غير الحكومية عن الوضع الكارثي الذي تعرفه بعض المؤسسات -على قلتها- إذ ترزح أحيانا تحت وطأة الرشوة، حتى غدت إحدى الثوابت فيها، وبالتالي أصبحت تقوض أسس كل مشروع لإصلاح هذه المؤسسات؛ بالإضافة إلى الابتزاز والمحسوبية التي تفرز مظاهر التفاوت في المعاملة بين النزلاء، وهي ظواهر تصبح طبيعية أمام الاكتظاظ الذي تعرفه هذه المؤسسات.
لا يمكن أن تُعزى ظاهرة الاكتظاظ بالمؤسسات العقابية من حيث واقعها إلى مجرّد ارتفاع معدلات الجريمة،فهناك اعتقاد سائد بأن السجن خيرٌ من أي تدبير بديل؛ وبالتالي، يتم القطع مع أي تدبير بديل عن الإفراج المشروط ولا تُطبَّق نظم بديلة عنه،فيما يتم التصدي إلى الظاهرة باعتماد الحل الكلاسيكي المتمثل في “الترحيل الإداري لإعادة التوازن” ،من خلال تنقيل النزلاء المحكومين إلى مؤسسات أخرى من أجل التخفيف من عبء الاكتظاظ.غير أن ذلك يخلق مشاكل أكثر مما يحلها، فإبعاد السجناء عن أسرهم، يؤثر سلباً على حقهم في تلقي الزيارات العائلية وعلى الحق في محاكمتهم محاكمة عادلة بعد نقلهم بعيداً عن المحاكم والخدمات القانونية.
لقد ظلّ الاكتظاظ في السجون سمة هيكلية دائمة على الرغم من السياق الخاص بأزمة كورونا والعفو،حيث استفادة 96 شخصا من تدبير العفو مما تبقى من العقوبة، فيما شمل تدبير التحويل من السجن المؤبد إلى المحدد 29 مستفيدا، أما تدبير التخفيض من العقوبة فقد استفاد منه 3736 سجينا، ليصل مجموع السجناء المستفيدون من تدابير العفو الملكي التي تم تنفيذها خلال سنة 2021 إلى 3861 من بينهم 128 سجينة. لكن في المقابل بلغ عدد المعتقلين الوافدين من حالة سراح على مجموع المؤسسات العقابية بربوع المملكة برسم نفس السنة 60108 وافدا جديدا،من بينهم 4103 نزيلا احتياطيا بنسبة %42.9 من مجموع الساكنة السجنية،وهو ما يستوجب معالجة بحلول جذرية من خلال رفع العقوبة الحبسية على عدد من المخالفات والجنح،وكذا خفض مدّد الاعتقال الاحتياطي بدلاً من تجميد الملفات من دون النظر فيها،وفي المقابل حصر الجرائم المعاقب عليها بعقوبات سالبة للحرية في القانون الجنائي المغربي،والاستعاضة عنها بعقوبات بديلة مثل استخدام “سوار المراقبة الإلكترونية، والوضع تحت الاختبار القضائي،وتفعيل الإفراج المشروط،ووقف تنفيذ العقوبة…إلخ” سعياً إلى تعزيز المقاربة الحقوقية و تكريس حماية أوسع وأنجع لحقوق السجناء.
ضعف الميزانية والدعوة لخصخصة المؤسسات العقابية:
إن إشكالية ضعف الميزانية المرصودة للمؤسسات الإصلاحية والعقابية لا تقل أهمية عن إشكالية الاكتظاظ، باعتبار أن النهوض بأوضاع السجون وما يتطلبه من نهج سياسة سجنية فعالة يتطلب اعتمادات مالية كافية لتغطية النفقات المرتبطة بالعناية بالسجناء،كالنظافة والرعاية الصحية والتغذية وغير ذلك، سيما بعد قرار منع إدخال قفف المؤونة بكافة المؤسسات السجنية منذ أكتوبر2017 لنقص الأعباء والتكلفة المادية العالية التي كانت تتحملها أسر النزلاء، والتي تتحدر في أغلبها من أوساط فقيرة هشة،بعدما جرى تفويت عملية تغذية السجناء إلى شركات خاصة. وهذا الشيء يمكن أن يمهد الطريق للدخول في مرحلة خصخصة المؤسسات العقابية،على اعتبار أن القطاع الخاص أبان عن كفاءة وفاعلية عالية في الإدارة والتشغيل بالمقارنة من القطاع العام.
إن القطاع الخاص قادر على إدارة وتسيير المؤسسات العقابية بأساليب ذات معايير مرنة ووفق رؤية منفتحة، وهذا غالباً ما سيؤدي إلى بلوغ الكفاءة الإصلاحية وتحقيق أهداف التأهيل. ويرى “روبرت بريتون” في هذا الصدد، من موقعه كرئيس سابق للإصلاحيات في الولايات المتحدة، أن السجون الخاصة لا توفر خدماتها بطريقة أسرع من القطاع العام فحسب، بل بتكلفة أقل، ويؤكد “باتريك” وهو مدير سابق للسجون في الولايات المتحدة أيضاً، أن النزيل في السجون الخاصة يكلف الدولة أقل بكثير من النزيل في السجون الحكومية.
إن الحجج التي يستند إليها أنصار خصخصة المؤسسات العقابية لم تخلُ من النقد، فيراها معارضوها تنطوي على خطورة، إذ يعتقدون أن سيطرة فكرة الربح والاستثمار على القطاع الخاص سيؤدي حتمًا إلى إهمال الدور الإنساني والاجتماعي والتأهيلي الذي يتعين على التنفيذ العقابي تحمله، كما يرون أن إحلال القطاع الخاص بديل للقطاع العام في إدارة هذه المؤسسات الحساسة قد يؤدي إلى انتهاك حقوق النزلاء وتعذيبهم. ويُشار إلى أنه في ولاية لويزيانا الأمريكية اضطرت الحكومة إلى إغلاق إصلاحية خاصة بالأحداث الجانحين بسبب العنف الذي مارسه الحراس على النزلاء. ومن جانب آخر، فإن إدارة المؤسسات العقابية تعتبر جزءًا أساسيًا من وظائف الدولة الأساسية، وأن إحلال القطاع الخاص محلها سيعني تخلي الحكومة عن واجباتها الأساسية في إحلال العدالة وحماية المجتمع من الجريمة.
في الختام،يجب التذكير أن استخدام المؤسسات العقابية كفرصة للتصحيح والتأهيل يجب أن يكون الهدف الأسمى، بدلاً من التركيز فقط على العقاب. لذلك، يجب أن تتخذ إدارات السجون رؤية موضوعية تسمح برصد مؤشرات تقييمية تمكن من قياس مدى التقدم في تحسين وضعية السجناء، ورصد التحولات اللازمة، بما يساعد في صياغة السياسات العمومية اللازمة لتحسين الظروف في السجون.
ولتحقيق ذلك، يتعين على المسؤولين في الإدارات السجنية التخطيط المسبق لبرامج إعادة التأهيل، بما يشمل قوانينها وشروطها وخطواتها بطريقة واقعية، تتماشى مع التغير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وترقب حلولاً بديلة في حالة وجود أي الخلل. ومن ثم، يتعين تطبيق تسيير عقلاني لهذه البرامج لتحقيق المرونة والحركية والفعالية في آن واحد. وفي حالة عدم توفر تخطيط واقعي وتسيير عقلاني وكادر بشري فعال ، فإن إستراتيجية برامج إعادة التأهيل قد تؤول لا محالة إلى الفشل.