د.رمضان الحضرى يكتب الشعراء على الورق ومسرح الحياة

الشعراء

على الورق ومسرح الحياة

إذا أطلق محارب برتبة لواء قذيفة من دبابة أو طائرة أو مدفع ولم تصب هدفها، فكل رتبه وتعليمه وتدريبه لم يكسبوه المهارة المناسبة لتحقيق الأهداف المرجوة منه، وإذا أمسك طفلٌ حجرا وأصاب به عدوه فقد حقق هدفه دون رتبة أو تعليم أو تدريب، فالتعليم الذي لا يحقق أهدافا نوع من تضييع الوقت، رحم الله شاعر الأندلس العظيم ابن شرف الذي عاش في فترة هوان العرب والمسلمين في بلاد الاندلس (أسبانيا والبرتغال حاليا)، حيث كان الحكام يختارون لأنفسهم ألقاباً تهز الجبال، بينما دولتهم كريشة في مهب الريح حتى سقطت سقوطا مدويا، فقال ابن شرف:

ومما يزهدنى فى أرضِ أندلسٍ

قول معتصمٍ فيها ومعتضدِ

ألقابُ مملكةٍ فى غيرِ موضعها

كالهرِّ يحكى انتفاخاً صولةَ الأسدِ

فالكلمة لا تصيح على الأوراق قبل أن يصيح قائلها على مسرح الحياة، والكلمة لا تنبت على الورق ولا تورق ولا تزهر ولن تثمر إذا كان قائلها عقيما في علاقته بالحياة، فكم من متكلم ما جنى القوم منه سوى الصداع، وكم من كاتب كرهت الأوراق رائحة مداده النتن على صفحتها الناصعة النقية، هذا ليس مقالا في النقد بقدر ما هو قالة في خطبة تلتزم الحكمة في الحياة.

من يقرأ كلمات عبد العزيز جويدة سيبكي لأن الشاعر بكى وهو يكتبها سبقته دموعه قبل حروفه، فتحولت الدمعات من مسرح الحياة إلى حروف باكية على الأوراق حيث يقول:

تحتاجُ غزةُ مَن يُلقنُها الشهادةْ

تحتاجُ غزةُ ( لترَ) دمٍّ أو ضُمادةْ

تحتاجُ أكياسَ الطحينِ وكلَّ كوبٍ من مياهِ الشربِ

في دورِ العبادةْ

تحتاجُ غزةُ ألفَ لَحدٍ كلَّ يومٍ أو زيادةْ

تحتاجُ غزةُ نصفَ ضوءِ الشمسِ حتى

لا يموتَ صغارُها عندَ الولادةْ

***

ستموتُ غزةُ كلُّها ؟

هَبْ أنها ماتتْ

وصارتْ كلُّها لمن اعتدى

ستلوحُ يومًا ألفُ غزةَ

من جديدٍ في المدى

وسيخرجُ الشهداءُ

مِن عَينِ الردَى

سيمرُّ “عيسى” في الشوارعِ كي يُعانقَ “أحمدا”

وستُنبتُ الأرضُ الخرابُ كنائسًا ومساجدا

ستظلُّ غزةُ دائمًا

شعبًا يُقاومْ

ستظلُّ غزةُ دائمًا ضدَّ العِدا

وكذا النص زاخر بالحزن الذي لم يمنع تسرب ضوء الأمل من ثقوب الظلام ليصل للفؤاد مطمئنا.

ومن يقرأ كلمات الشاعر عباس الصهبي الفريد الذي يتناول موضوع الأخوانيات، فكتب رثاء في محمد بن شقيقنا سيد فؤاد، رحم الله محمدا رحمة واسعة، وختم الله على قلب أبيه وقلوب محبيه بخاتم الصبر والسلوان والرضا بقضاء الواحد الديان.

يقول عباس الصهبي في رثاء الشاب الشهيد بإذن مولاه محمد بن سيد فؤاد:

زَهْـــرَةٌ.. غَـيَّـبَ الـوُجُــوُدُ شَـــــذَاهَا

أتُرَىٰ فِيْنَا «اسْتَخْسَرَتْهُ» رُؤَاهَا؟!

فَحَيَــاةُ الزُهُـــوُرِ نُــــوْرٌ وَضِـــــــيءٌ

لَيْسَ يَكْفِيٖ مَا عِنْدَنَـا لِضِيَـاهَــــا

لَسْـتُ أَرْثِيــكَ يَا «مُـحَـمَــدُنَـا».. لَا

ودموعـي فاضت لأقصىٰ مَـدَاهَـا

لَيْـسَ حُـزْنَـاً عَلَيْـكَ لَا بَـلْ عَـلَـيْـنَـــــا

بْعْـدَكَ النَـازِلَاتُ لَا تَـتَـنَـاهَــــــــىٰ

فيـكَ أرْثــيٖ كُلَّ الزُهُــوِرِ بِـدَمْـعِـــــيٖ

لَيْتَـهُ كَالنَـدىٰ يُعِيـــدُ نَـمَــاهَـــــــا!

كُنْتَ يَا «زَهْـــرَةَ الشَـبَـــابِ» نَـهَـــارَاً

فِيٖ لَيَالِـيٖ الحَيَـاةِ يَمْحُـوْ دُجَاهَـــا

أَمَـلَاً مُـلْـهِـمَـاً لَنَــا.. مِنْــهُ نَـحْـيَـــــــــا

قُـدْوَةً يَسْتَحِقُهَــا مَـنْ وَعَـاهَــــــا!

نزلت الكلمات من فوق مسرح حياة عباس الصهبي على قلب سيد فؤاد لتحيل محمدا إلى بذرة أنبتت الصبر والري والنبل والطيبة، وكذا تتوازي كلمات عباس الصهبي مع موضعه على مسرح الحياة، ففي أي الدربين سرت ستلتقي بعباس الصهبي، في الحياة أو الكلمات.

أعرف الشاعر العربي الكبير / فايز أبو جيش أكثر من معرفتي لنفسي، فهو عروبي يحمل مدفع كلماته على عاتقه ولا يضعه حتى لحظة النوم، يقول الشاعر / فايز أبو جيش:

فَكيفَ يُطُلبُ غَيثٌ من تَصَحُّرِنَا

وكيفَ يُرجى حَليبَ النُّوقِ من حَطَبِ

وكيفَ ننظمُ شِّعراً والشُّعورُ غدا

قحطاً وجفَّتْ بحورُ الرَّجزِ والخَبَبِ

ريقتْ على عتبةِ الأقصى كرامتنا

كما تُراقُ دماءُ الضأنِ في الشُّعَبِ

صرنا على شفةِ الأوغادِ مسخرةً

وجُلُّنا من كرامِ الأصلِ والنَسَبِ

هذا الترابُ الذي جاستهُ شِرذمةٌ

مشى عليهِ لصونِ الحقِّ ألفُ نبي

يا قدرةَ الله هبي أنجدي وطَنَاً

ما عادَ يُنْجِدُهُ إلَّاكِ فاقتربي

من يوقظُ السَّيفَ من غمدِ تلحَّفهُ

وفارسُ السَّيفِ من قهرينِ لم يُجبِ

أواه من مرارة شعور الفارس إذا كان مكبلا عن قتال الأعداء، فيحيا بشعور المخذول فلم يتبق أمامه إلا أن يرفع يديه إلى السماء، فلم يعد الرجال رجالا ولم تعد النساء نساء، ولن ينقذ هذا الموقف إلا خالص الاستغاثة والرجاء وصدق الطلب من الله بالدعاء.

في مصر شاعرات وصلن لدرجة الإعجاز سأكتفي منهن بأربع شاعرات رائعات وتأتي الأولى شاعرة مصر الرائدة سكينة جوهر وهي جوهرة شاعرات المنصورة حيث تقول:

ملأت دنان فؤادي محبة

وجئت أساقي هنا خير صحبة

وأروي المحبين خمر بياني

وعشاق حرفي حلاه..وعذبه

مع السائرين بدرب الخليل

نعيد إلى ملك الشعر شعبه

وما (واحة الشعر)إلا امتداد

ل(أحمد شوقي )ومن سار دربه

أمير البيان ..ورب القوافي

ونحن على نهجه خير عصبة

فهيا إلى المجد نعلو كراما

فما المجد إلا لمن رام كسبه

تكتب سكينة قضيتها وقضية كل شاعر يدرك ماهية الشعر العربي ووظيفته وأثره في المتلقي، فهي تنقل من مسرحها على الحياة عبر جسر الأوراق للمتلقي مباشرة.

أما الشاعرة الثانية فهي شاعرة أميرة للشعر، تكتبه لتحيا به، أو هو يجيئها ليبث فيها الحياة، المهم أن علاقتها بالشعر موثقة بعقود رسمية وشرعية على مذاهب جميع أئمة الشعر العربي، هي الشاعرة شريفة السيد التي تقول:

المدينة تستردُّ قواها

تقول المدائن مِنْ حولها:

– كيف كُنتِ….؟

وكيف استطعتِ التحدِّي؟

قالت:

صبرتُ

ولملمتُ أزهار عمري

وأسدلتُ أجنحةً مِنْ سنائي عليهمْ

هززتُ نخيلِي

وأطعمتُ كل الحُلوق

رددتُ القميصَ نظيفًا

على صدْرِ يوسُف…!

تستند شريفة لتاريخ وطنها الذي تحبه أكثر من حبها لذاتها، وتستنهض تراثها القديم أن يستيقظ فهو أحق بالحياة من حياة الأموات، فهي محتاجة جدا لأن ننظف قميص يوسف من دم كذب.

دخلت الشاعرة إلهام عفيفي قصر الشعر والمسرح والنقد من الباب الرسمي لكل فن من هذه الفنون، فلم تكفها الموهبة الممدودة وغير المحدودة، بل هي دائمة التطور والتطوير، والبحث والتنقيب، هي أكثر شاعرة أعرفها تقرأ في الوطن العربي، حتى أصبحت القراءة عندها إدمانا لا تستطيع أن تقلع عنه، فهي مثقفة كبيرة في مجالات عديدة، ولذا حينما تكتب قصيدة لا تدري إلى أين ستذهب بك، وقد اخترت بعضا من أبياتها حينما تقول:

محـتاجةٌ جدًّا لبعضِ الوقتِ آهْ

من قــال لي أنِّي على قيدِ الحياة؟

محــتاجةٌ جدًّا لهذا العمـرِ آه

مالي أراكـم لا عيونَ ولا جباهْ

مالي أراكـم باهتـين جميعكم

لم تعرفوا صوتَ البعيرِ من الشياة

لم تعرفوا ضوءَ الصباحِ وقد مضى

حتى استفقتم والظلام أتى صباه

لا يرمش الجفن الذي في وجهكم

من هول مـوتِ الطُهرِ في ثوبِ الفـتاةْ

لا حارسٌ يرعى المآذنَ والمساجدَ

والزوايا.. قبرُنَا في الأفــقِ تاه

كاتبة بدرجة قائد حرس حدود الوطن العربي وحرس حدود الأخلاق العربية.

أما الشاعرة / رباب جميل رابعة الشاعرات فهي في الشعر رابعة، ترى في الشعر حياتها، وتجعله مخزنا لقضاياها الدينية والوطنية والاجتماعية، فهي تكتب في عيد الأم وتقول:

لم أنشغل أبدا بحبِّ سواكِ

ما الحب إلا ما رأت عيناكِ

لم أكتوِ أبدا بنار حياتنا

فالنار دفء أرسلته يداك

الآن أجلس في مكان لقائنا

أتذكر اللحظات عند لقاكِ

حالا سيأتي والدي ليضمَّنَا

وأنا أحب رضاءه ورضاكِ

قلبي من الأفراح أضحى طائرًا

قد طار حتى صار في الأفلاكِ

لا أنسى يومَ جذبتِ كفِّي بقوةٍ

وأنا كعصفور على الشباكِ

قضية حب وبر الوالدين في حياتهما أو بعد رحيل أحدهما او كلاهما، قضية حياتية تحمل من الرموز والدلالات كثيرا، فمسرح الحياة عند الشاعرة ممتد من الماضي للحاضر ليشمل كل حياتها تقريبا، ولذا فهي تحمل الكلمات تاريخا لا تعرف لنسيانه سبيلا.

********

إن لم تصدق في مسرح حياتك، لن تصدق الكلمات في بث وجهة نظرك، فالشعر ليس موهبة فقط، والفنون ليست مواهب فقط، بل إن الفن موهبة صادقة.

Loading

عبير سليمان

Learn More →