كتبت / سحر الجمال
لقد خطوت أولى خطواتي وأرضي محررة، فأنا من جيل نصر اكتوبر، لم يلحق بي عار وخزي النكسة والهزيمه في يونيه ١٩٦٧
عرفت قصص الهزيمه من أمي، روت لي وقالت إن قريتها لبست وشاح الحزن والعار، وكيف كان أبيها يمشي منكس الرأس حزين، وعند خطاب التنحي خرجت قريتها في تظاهره كبيره، ليست حبا في ناصر، ولكن هجوما عليه، ورفض التنحي، بلفظ أكيد تعرفونه جيدا، فيه تهكم عليه بألا يتنحى قبل أن يغسل ثوب الهزيمه، ويمحي عارها…. هكذا روت لي أمي
بعد ذلك كانت تشاهد سهرات جدي مع أصدقائه، في المساء وتسترق السمع، حول ما يتحدثون فيه عن عمليات الجيش المصري في الضفه المحتله، وكانت تسهر وتقوم بعمل الشاي لهم لتسمع الحكايات
حتى جاء اليوم الذي توفى فيه ناصر، وكانت قد تزوجت من والدي، روت أمي كيف حزنت مصر، وكيف أنهم رفعوا نعش فارغ وطافوا به القريه والنساء تبكي وتنوح لموت عبد الناصر، وكيف قاموا بسكب الطين والزهرة على أبواب بيوتهم ، حزنا على موت عبد الناصر
تروي أمي أنه يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣، كيف دخل عليها أبي ليأخذ سلاحه، ويخبرها أن مصر بتحارب، وانه سيظل في عمله، وأوصاها بأن تذهب لأبيها في القريه، فهو لا يعلم ما ستؤل له الظروف، رفضت أمي أن تتركه، وكنت صغيرة، وأخي وليد رضيع على يدها
بعد ذلك كانت تتابع أمي مثل كل المصريين أخبار الحرب من الراديو، وتجلس مع النساء ليتبادلوا الاخبار.
عاد أبي للبيت ليؤكد خبر النصر والعبور، و تستكمل امي روايتها لي، كان أبيك قلق على اخواته احمد وبرنس، فلقد كانوا من جنود أكتوبر، ولا توجد عنهم أي أخبار
هنا انتقل بكم لرواية جدتي، حكت لي في ذات ليلة وكان معي اولاد عمي وعمتي، أنها لم تكن تغلق باب البيت، ولا تنام، وتجلس في بهو البيت تنظر للباب المفتوح على شارع طويل، في أنتظار قدوم أولادها، تقول جدتي كانت فرحتها منقوصه، بسب عدم سماع اي اخبار عن أولادها، تقول جدتي، كانت الأيام تمر عصيبه وطويله، وكانت أحيانا تفقد السيطرة على اعصابها وتأخذ في الصريخ والعويل والنحيب على ولديها، وتخرج في الشارع وهي تبكي وتصرخ عليهم ، حتى وجدت ذات ليلة وعيناها شاخصة على الشارع من الباب المفتوح، لتجد شبح جندي حامل بندقيته من بعيد، وقد لمحها ولمح الباب المفتوح، لينادي عليها بأعلى صوته، لتهرول عليه مسرعه تحتصنه وتبكي فرحة بعودته، ثم تسأله عن أخيه، فيرد أنه لا يعلم عنه شئ، تعود للحزن والجلوس أمام الباب المفتوح، شاخصة البصر في انتظار إبنها الثاني، ولكن مر وقت طويل، ولم تصلهم أي أخبار، وكان الرد أعتباره جندي شهيد مجهول.
لم تيأس جدتي ولا جدي، كان يذهب للسؤال عليه كل يوم.
و تستكمل جدتي في روايتها لنا….. بأنه وبعد وقت طويل، وقد تملكهم اليأس والأستسلام للأمر الواقع، والتسليم بأستشهاد إبنهم الثاني في الحرب.
ولكن تحدث المعجزه، فإذا به يعود للبيت ويروي لهم أنه كان في الأسر
تروي جدتي هنا بأن جدي ذبح الذبائح ووزع على الجيران وأقام وليمه كبيره، فرحة بعودة أولاده، ونصر أكتوبر
ثم تأتي هنا روايات أعمامي عن حرب أكتوبر، وكنا نبلغ من العمر سنوات قليله، لكننا كنا نستوعب حينها ما يحكى لنا.
روى عمي البرنس، بأنه كان يستحم عندما جاء لهم أمر الحرب والعبور ، وأنه كان قائد دبابه، وأسرع وركب دبابته والصابون على راسه، ولم يكمل ملابسه إلا في دبابته، وكيف أن الجميع كان يهتف الله واكبر، وأن الجميع كان مسؤل عن نفسه، ولا يعلم ماذا يفعل إلا تنفيذ أمر العبور
عمي الاخر يروي هويلات الحرب، فلقد كان من سلاح المشاه، يروي كيف كان زميله يمشي بجواره، وإذا به يجده يسير بدون رأس، وأخر جريح، وهذا مبتور اليد، وهذا مبتور الارجل،
ورواى كيف تم أسرهم وحبسهم، ومنع الماء عنهم، وكيف انهم اضطروا لشراب بولهم بسبب شدة العطش، لم يروي عمي تفاصيل أكثر من ذلك، غير أنهم في لحظة استبدالهم كانوا يعتقدون انهم سوف يقتلوهم مثلما حدث أيام النكسة….. فهم لم يعرفوا أننا انتصرنا، إلا بعد عملية أستبدال الأسرى
أخر ما رواه لي أعمامي، هو تكريمهم بشهادة العبور، وتعيينهم في وظيفة حكوميه وذلك مكافأة لهم على شجاعتهم في الحرب وانتصار أكتوبر
وللحديث بقيه…