احمد شعبان
(بئر التاريخ وآبار الفنون
وأنشطة العقل العربي)
د.رمضان الحضرى
————————
(3)
مهتمٌ أنا الآن برصد الانقطاعات التي أحدثت فجوة بين الإنسان العربي والتراكم اللامحدود لثقافته وأنساق حياته العربية والتأثير على فكره للخروج من التقاليد والمعتقدات العربية بوصفها قديمة ولم تعد صالحة للحياة مع المجتمع المعاصر بما يشتمل من تكنولوجيا لا بد أن يستهلكها ذلك المواطن المتخلف ليثبت وجوده كذبا في دائرة التقدم الموهوم والمزعوم، ونتج عن هذه الانقطاعات تدهور حال الأمة العربية فكريا وسياسيا واقتصاديا فجاءت النتيجة إيمانا واضحا وراسخا بأفكار الاستعمار والعمل على تثبيتها في كل المناطق العربية.
تتمثل أخطر الانقطاعات – حسب وجهة نظري – في تفكيك الوحدات البنائية للشخصية العربية وإعادة تركيبها على الطريقة الغربية، لتصبح كل وحدة غير خاضعة لبنائها العربي الرئيس الأصيل، فتحولت وحدة الشخصية العربية من القواعد والروابط الدينية واللغوية والثقافية إلى روابط قومية، ليصير البناء العربي مشابها للبناء الأوربي، حيث أصيبت أوربا قبل النهضة بسطوة الكنيسة ومشكلات اللغات المتعددة، فكانت الحلول لديهم أن يعتمدوا على الروابط القومية، فتنفصل بريطانيا بلغتها الإنجليزية عن فرنسا بلغتها الفرنسية وكذا ألمانيا وأسبانيا والبرتغال.
فلما تحولت الأمة العربية من شخصيتها اللغوية والدينية والثقافية انتقلت لتصبح أمة متفرقة، كل قطر يبني لنفسه مجدا مختلفا عن الآخر، ويغذي هذه القومية لتزداد الفوارق بين أبناء الأمة الواحدة، فيفتخر المغربي في المملكة المغربية على شقيقه الجزائري ولا يفصل بينهما فاصل في اللغة أو الدين أو الأرض أو حتى نوعية الطعام والشراب.
أحاول أن اتخذ كثيرا من الاحتياطات في الكتابة كي أفوت الفرصة على الأوهام غير المبصرة التي تعتريني أثناء منادمة حروفي لتثبت لي أهمية عظمى لهذه الكلمات التي لن يقرأها إلا من هم مثلي أو أعلى درجة مني ولا يملكون أن ينطقوا بها سوى بينهم وبين أنفسهم أو من يأتمنون على أنفسهم؛ حيث تعيش الأمة العربية منذ الاحتلال التركي مطلع القرن السادس عشر وحتى لحظات الكتابة هذه حالة من الانفصام التام عن شخصيتها رغم وجود جميع الإمكانيات لعودتها إلى مكانها، فلن يملأ مكانها أحد ولن يستطيع، لكنهم يسعدون بعدم وجود الدول العربية حتى ولو يخسرون هم.
لازلت أتخلى عن عروبتي وأنا أكتب بعين ليست عربية، فأنظر من خارج الأمة العربية على تاريخها وحالتها وشخوصها وشعوبها وجغرافيتها وانتاجها الفكري والعلمي والديني والثقافي، وأرصد بعض المواقف التي أفخر بها كإنسان، وأضع عيني في جيبي حينما أتذكر الكثير من المواقف في العصر الحديث.
يحكي لنا التاريخ القديم عن فقير جاء من بلاد المغرب العربي هاربا من ثأر ونزل في بلد عربي عند أحد الولاة ليحميه، فوافق الأمير حينما رأى ابنة المغربي الصغيرة التي لم تبلغ الحلم ولكنها بلغت الجمال والشهوة في نفس الأمير، وماهي إلا أيام حتى طلب الأمير الزواج من هذه الطفلة، ولا يملك المسكين المغربي سوى الموافقة الفورية دون أدنى تفكير، وأخذها الأمير للقصر، ودار ما دار من زواج شيخ طاعن بطفلة في عمر حفيدته، وفي يوم عاد الأمير ليسأل عن طفلته (زوجته)، فأخبره الحراس أنها تلعب في الحديقة مع الأطفال، فقال: أرسلوها لبيت أبيها فلا حاجة لنا بها، ومرت سنوات تسعة كما يقول التاريخ، وذهب الأمير لزيارة شقيقه في بيته، فخرجت زوجة أخيه لترحب بالأمير فأعجبته، فسأل الأمير أخاه عنها ولم يكن يعرفها، فقال أخوه: هي بنت المغربي المسكين الذي احتمى بك وتزوجتها أنت وأعدتها له لأنها كانت طفلة، فلما كبرت تزوجتها أنا، ولم أخبرك محبة فيك، فقال الأمير لأخيه: طلقها الآن فأنا لم أطلقها، وأخذها الأمير معه ليلتها، وجاء أهل الفتوى للإمارة وأقروا بالإجماع ما فعله الأمير، فالأمير لا يخالف الدين، وكذا الدين لا يخالف الأمير.
إن الاقتحام المفاجئ للبيت العربي في الوقت الحالي سوف يكشف عورات كبيرة كانت تختفي في الأعماق، فلا يجرؤ مؤرخ أن يذكرها في وقتنا لأن التسلسل التاريخي في حياتنا العربية تحميه جيوش خارجية وداخلية.
نحن مصابون بأحداث كبرى لا نعرف لها نقطة ولا مكانا ولا زمانا في تاريخنا العربي، وغالبا ما تتحكم هذه النقطة في مقادير الشعوب العربية في فترات قمة في الحرج، وأصعب ما يلاقيه الإنسان أن يعيش على أطياف لا يعرف من أين جاءت ولا كيف تستمر ولا يستطيع أن يتخلص منها، ربما هذا يجعل العرب أكثر الشعوب المؤمنة بالدجل وعلاقتها بما لا يرى أقوى من علاقتها بالمرئيات.
إن حالة الانطماس غير الظاهر على العقل العربي الذي يكاد أن يكون
نسمة صيف في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي يمثل حالة انفصال المظهر عن الجوهر، فالباب مطلي بالذهب والأسوار جميلة المنظر، وتفتح الباب على أكوام من التبن النتن الذي لا يصلح لطعام حيوان أو صناعة إنسان ، ولكن الباب الذهبي يجعل له قيمة وكثرة الحراس تعطيه المهابة، فالصوت حقيقة لكنه بلا كلمات، ويعيش العربي في هذه الفترة لحظات الحضور المشرف جدًّا في دائرة اللاشيء (الفراغ).
تعمل الشعوب العربية الفقيرة على كسب قوتها لتشتري من (المولات التجارية) التي تبيع السلع الغربية، وتستهلك الشعوب الغنية كذلك السلع الغربية، فلا مصانع تذكر أو يمكن تطويرها في الدول الفقيرة أو الدول الغنية، فكلاهما مستهلك لسلع غربية يمكن صناعة ما هو أفضل منها في الدول العربية، لكن المستوردين والمصدرين أصحاب القرار في عرض السلع، حتى مصر مع اتساع رقعة الزراعة تستورد الألبان والزيوت والسمون والجلود والقمح والملابس، وهي التي كانت لا تحتاج هذه الصناعات من الخارج.
تستمر عمليات مهمة للغاية بشغل الشعوب العربية في حالتيها الفقر والغنى، بشرط أن يكون ذلك بعيدا عن التعليم والدين والثقافة، فالتعليم يكفي منه اللغة الإنجليزية، والدين يكفي منه أن تبتعد عنه، وإذا أردت التفوق في الدين فلك أن تتهكم عليه، وإن أنكرت منه معلوما بالضرورة، فالجوائز في انتظارك لأنك أتيت بجديد حين تخطيت حدود الله جل في علاه، والثقافة يكفي منها أن تعرف أنواع الهواتف أو أخبار الساقطات وأن تتابع أكبر الحوادث والجرائم.
ليس من الوارد على ذهني أن ما أرسمه من كلماتي هو الطريق
الأمثل لعودة العربي إلى بيته العلمي والديني والثقافي الفاره في علومه
ومعتقده وثقافته، لكنني أضع حجرا ربما يكون علامة للتوجه الضروري في هذه المرحلة، فجدوى التعليم ليست في تقديم المعلومات لفئات الشعوب العربية، بل الوظيفة الأولى للتعليم بناء الشخصية على نظام التعليم وليس على تعليم النظام، وبعبارة أخرى فليست ثمة مناطق أخرى أفضل من التعليم لتكوين شخصية عربية تتصف بأخلاقيات العرب وتلتزم بالمعتقد العربي الإسلامي وتبتكر في العلوم كما فعل العرب السابقون، ولا تنكر علوم غيرها من الأمم، بل تستفيد منه بما لا يغير طبيعة الشخصية
العربية الفكرية والأخلاقية والثقافية.
سقطت الشعوب العربية في بئر المفاهيم التجزيئية التي تصوغ الرؤية حسبما تقتضي المصلحة العامة لقومية من القوميات، فتجد اهتمام الدول بقوميتها قد أفقدها التكامل مع شقيقتها، على الرغم من أن أحاديث الرسول في تفضيل بعض العرب الذين يعيشون في مكان ما وأصبح بعد ذلك من دول سايكس بيكو ، قد جاء هذا الحديث لترغيب بقية الشعوب في الاتباع وليس للتفضيل، فكرم الأزديين في عمان، وشجاعة الجنود في مصر،
وفضل القبائل العربية من قريش وأسلم وأشجع وغفار وقبائل الأنصار، كل هذا جاء على سبيل الترغيب في الاتباع وليس على سبيل التفضيل المطلق، وإلا لما قال النبي لفاطمة ابنته: اعملي يافاطمة بنت محمد فإني لن أغني عنك من الله شيئا.
أصيبت الأمة العربية بتقزيم أسس التعليم التي تبني الشخصية على مبادئ الكرامة والكرم وحسن الخلق، ضاربة بها عرض الحائط، مع العلم أن الغاية من كل العلوم انتاج ما يقدم للشعوب رفاهيتها وراحتها البدنية وسعادتها النفسية والروحية.
ولازال الحديث في أول الدرب، عسى أن يتقبل الله وأن تلقى
الكلمات أذنا واعية وقلوبا سليمة.
———————