كتب / قاسم المحبشي.
على هامش مؤتمر منهجية المرأة في بناء الأوطان نظمت الأكاديمية الدولية للدراسات والعلوم الإنسانية في القاهرة ندوة ثقافية عن تعزيز دور المرأة في الدراما العربية. حضرتها بدعوة كريمة من رئيس المؤتمر ومدير الأكاديمية الدكتور جابر كامل وسنحت لي الفرصة في الجلسة الأولى بالحديث عن ورقتي البحثية المكرسة عن دراسات النوع الاجتماعي واهميتها في تمكين المرأة. حضر الندوة نخبة من نجوم الدراما المصرية وخبرائها؛ كتاب ومخرجين وممثلين وفنانين ونقاد واكاديميين عرفناهم في السنوات الماضية من خلال السينماء والمسلسلات التلفزيون فضلا عن حضور مشاركات من بعضر الاقطار العربية؛ من فلسطين وليبيا والسعودية ولبنان واليمن استمعت إلى مداخلاتهم المثقفة عن رسالة الفن وأهمية الدراما في تشكل القيم والاتجاهات للمجتمعات العربية. فكيف هي صورة المرأة في الدراما العربية ومصر هي مركز إشعاعها ومحور فعلها تصميما وتشكيلا وإنتاجا وتصديرا وتاثيرا في المجتمعات العربية كلها. نعم هي أم الدنيا وأم الدراما. إذ شهدت الدراما المصرية تطورا مضطرا في تصوير المرأة وتمثيلها بما ينمي صورتها الإيجابية في عملية التنمية المستدامة. على العكس من الصورة النمطية للمرأة التي لا وظيفة لها غير تروض الوحش الذكر وجعله إنسانا كما تروي ملحمة جلجامش عن حكاية المرأة الحسناء التي بعثتها عشتار لترويض انكيدو المتوحش تلك الوظيفة الترويضية التي أكتسبت شهرتها في حكاية الف ليلة وليلة بوصفها مروضة الملك الموحش الذي يفتك ببنات جنسها. صورة الأنثى الجسد البيولوجي الذي لا وظيفة له غير التفنن في اغراء الذكر وترويضه هي التي سادت لزمن طويل جدا في تاريخ الحضارة الإنسانية. إذ مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني على كوكب الأرض، لم تكن فيه المرأة “حواء” شيئًا مذكورًا أو جدير بالاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته، بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف، وصانع التاريخ وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ومبدع الثقافة وباني الحضارة وحامل الأمانة المقدسة، وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون ومروض الوحوش، وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات؛ إذ كانت كل الصفات الإيجابية التي تدل على الفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والإنجاز والانتصار والعنف والحرب تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريب، وظل مفهوم الإنسان يطلق على الرجل فقط، وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما في ذلك الكائن الإنساني الآخر الشبيه به تمامًا – أي المرأة الأنثى – تدور حول فلكه الذكوري وتسخر لخدمته وتخضع لمشيئته البطريركية، وعلى مدى ملايين من السنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة ترسخت الهيمنة الذكورية والقيم البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها.
رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان “الرجل” يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جدًا، إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك، أو “الهابيتوسات” حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. يقول عالم النفس التربوي الأمريكي ” أرثر كوفر” في كتابه “خرافات في التربية”: “يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصًا أمين فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقًا لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر” ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره؛ فحينما اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة (الـ yang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الإيجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة، والـ yin يرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل، الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت). والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون، الذكورة الأنوثة أي اليانج والين. كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري، أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانة أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون، وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد، وأن المرأة كائن حسي غير عاقل، برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بأن الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال، شرعوا عادة وأد البنات… وحينما يعتقد بأن جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات فلا بد أن تختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال. هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لا بد من الذهاب إلى ما ورائها، من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية، كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأة وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس ((Habitus)) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات.
في العصور الحديثة والمعاصرة فقط تغيرت صورت المرأة واختلفت أدوارها من الأنثى إلى النساء من الجسد إلى الأم إذ هي وطن الأوطان كلها وبذلك تنوعت ادوارها الاجتماعية في دور الأم دور أم الأم الجدة دور الأخت دور البنت دور الحفيدة دور الحبيبة دور الزوجة دور ربة البيت دور المربية دور الراعية دور المعلمة المزراعة دور الهندسة دور المديرة دور الاستاذة دور الباحثة العلمية دور السياسية الفاعلة دور حارس البوابة.كل تلك الأدوار لم تجد من يعززها في الدراما العربية حتى الآن. “انطلقت السينما العربية من مصر قبل قرن ونيف من الزمن، ومنها انطلقت صناعتها إلى لبنان وسوريا وبلدان المغرب العربي، لتندمج في الحياة الثقافية على يد نخبة من الكتاب والفنانين والمقاولين والفاعلين في الفن السابع. ومنذ انطلاقتها الأولى أصبحت السينما العربية تيارا يعكس حالة التغيير الحضاري بالمنطقة العربية، حيث تم تشييد استوديوهات وقاعات سينمائية وتأسيس شركات إنتاج وتوزيع، لإعطاء هذه الصناعة موقعها الثقافي والاقتصادي على ارض الواقع. وخلال هذه الفترة من التاريخ، ظلت السينما المصرية هي الأقدم في المنطقة العربية /هي الأكثر انتشارا وتأثيرا باعتبارها ذات الصناعة القوية المكتملة من حيث وسائل الإنتاج والتوزيع والعرض والجمهور الضخم، إضافة إلى عدد نجومها في الساحة السينمائية، الذين يغطون كل احتياجات واختصاصات فن التمثيل السينمائي. وخلال هذه الفترة من التاريخ أيضا، كانت المرأة ومازالت هي الموضوع الأساسي للفرجة السينمائية العربية في المشرق والمغرب، إذ شغلت صورتها بكل الصفات، عاشقة، زوجة، مضطهدة، خائنة، متسلطة، عاهرة، راقصة، أما ومطلقة، العديد من كتاب السيناريو والمخرجين والمنتجين في مئات الأفلام العربية، منذ زمن الأبيض والأسود إلي زمن الألوان الطبيعية، كانعكاس واضح لنظرة المجتمع العربي إليها؛ وهو ما حولها إلى بضاعة لترويج الإنتاج السينمائي، بمشاهد الإغراء، الجنس، الرقص، الاغتصاب، الاستهتار بالجسد الأنثوي وبالتحرش الذي يداعب غرائز المشاهدين المراهقين والمكبوتين وإثارتهم، وهي مشاهد تكاد تكون متشابهة في العشرات من الأفلام العربية” ( ينظر ، محمد أديب السلاوي ، إلى متى تظل المرأة على الشاشة العربية جسدا للمتعة والإغراء؟ ٢٠١٩” ندوة الليلة تمحورت حول كيف يمكن للفنون الدرامية أن تعيد بناء صورة المرأة العربية الايجابية بما يعزز دورها في التنمية المستدامة ؛صورة المرأة المكافحة في سبيل التعليم والنجاح والمرأة الطبيبة التي تحرص على رعاية مرضاها والمرأة القاضية التي لا تهادن في تثبيت العدالة والمرأة العالمة التي افنت عمرها في المختبرات العلمية والمرأة الفيلسوفة التي امضت زمانها في التفكير والكتابة في قضايا مجتمعها. ثمة ادوار جديدة للمرأة تستحق التمثيل والريازة.
ومن مصر لا من غيرها يمكن أن يتم تعديل الصورة. أما مداخلتي فهي أكاديمية خالصة تتحدث عن أهمية الدراسات النسوية في تمكين المرأة بالتنمية الأكاديمية وسوف أنشرها في وقت لاحق