بقلم ـ د/ محمد سيد الدمشاوي
جميل أن تسجل يوميات حياتك قبل أن يعصف بك الأجل المحتوم، وتدفن معك ذكريات عزيزة، ربما استفادت منها أجيال لاحقة، ترى في بعض ما مررت به من أخطاء فتتداركه ، أو ترى في بعض منها صوابا فتتبعه وتحرص عليه.
وجميل أنْ تقف وأنت في نهايات عمرك تنظر لشريط ذكرياتك يمر من أمامك كأنه واقع معاش ، فتتأمله، وتتعجب من تصاريف القدر الذي يحركك بحكمة وقدرية بالغة ومتناهية، لا تدركها في حينه، أو ربما تدرك بعضها ولا تدرك البقية إلا في خواتيم حياتك، بعد أن طالت بك الرحلة ، وأوشكت المحطة الأخيرة على الوصول، ثم إذا بك تتعجب من تصاريف القدر، وحكمة الأيام .
مؤكد أن هناك من الأحداث قد تسرب من ثقوب ذاكرتك الهشة التي تتسع يوما بعد يوم ، حتى يصعب رتقها وترقيعها على الراتق ، فتتساقط منها الأحداث والأشخاص كما تتساقط الحصيات من غربال متسع العيون والفتحات، ومؤكد أن هذه الذاكرة تخونك في كثير من تراتيب الأحداث ، وتذكر الشخوص ، وتحديد المواقع ، وتقدير الزمان والمكان ، لكنها ولا شك ، تظل حافلة بكثير من الأحداث الأخرى التي تظل حية في وجدانك ، نشطة في مخيلتك، أو في عقلك الواعي أو حتى اللاواعي، تغازلك من آن لآخر إذا كانت جميلة ، أو تكدر صفو حياتك إن كانت مريرة ، لكنك تشعر في كلا الحالين أنها شيء يخصك بحلوه وبمره ، بجماله وقبحه، بأفراحه وأتراحه.
ربما تمارس أحيانا لعبة الانتقاء للأحداث والشخوص لتريح عقلك وفكرك ، فتنحي كثيرا من الأحداث لأنك لا تريد أن تتذكرها لمرارتها ، وتنحي كثيرا من الشخوص لأنك لا تريد لهم البقاء في مملكة خلدك، وكثيرا ما هم، بعد أن تقوم بغربلة هذه الذاكرة المليئة عن آخرها ، وكأنها حقيبة ملئت ماسا وياقوتا وذهبا وفضة ونحاسا وحديدا و حجارة وحصى وشوكا ، فتتخلص مما فيها من أشواك ، ثم تتخلص مما فيها من حجارة وحصى ، ثم تتجه إلى المعادن فتستبقي ثمينها، وتتخلص من رديئها ، لكنك في كل الأحوال يا صديقي لن تفلح في محوها من ذاكرتك مهما فعلت ، فالذاكرة مهما ضعفت ، وزادت هشاشتها ، باقية خالدة، بكل ما فيها ومن فيها، تظل تعرض نفسها عليك في حياتك حتى تموت أنت ، لكنها هي لا تموت حتى تعرض عليك في الآخرة ، فتراها كما هي ، حية نابضة كاملة ، لا تنقص ولا تزيد ، وكأنها حفرت بقلم ناصع لا تغيره الأيام ولا تبدله السنون.
ولذلك أتعجب يا صديقي من هذا الذي يصر أن يكون وجوده في ذاكرتك كالأشواك ، أو كالحصى والحجارة ، ولا يريد أن يكون جوهرة نفيسة لك ولنفسه، يريد أن يكون عدوا وليس حبيبا ، مكروها وليس محبوبا ولا معشوقا ، شوكا جارحا وليس ثمرا طيبا ، يفني حياته في التربص بالناس ، واستعدائهم ، والتنكيل بهم ، والتدبير لهم ، والمكر عليهم، يظل يكذب ويكذب حتى يصدق نفسه، وهو يعلم أن الذاكرة الجمعية لكل من عرفوه قد سجلت له كل أفعاله وأقواله وتدابيره الخبيثة ، مهما تغافل الناس أو تجاهلوا عن ذكر ذلك ، ولكنه لغبائه المستحكم لا يدرك ذلك ، لا يدرك أنه مكروه في ذاكرة الناس، وأن من الناس من يرمز له في الذاكرة بالثعبان، ومنهم من يرمز له بالقرد، ومنهم من يرمز له بالشيطان، وهكذا تتعدد رسومه ورموزه من ذاكرة لأخرى حتى يأخذه الله ، ويريح الناس من أفعاله وأقواله قبل أن تمحى رموزه السيئة من ذاكرة الناس.
ومن الناس من جعل من نفسه جوهرة ثمينة في ذاكرة الناس، كلما قلَّبوا ذاكرتهم دعوا الله له بالتوفيق حيا ، وبالرحمة ميتا ، وربما شمل دعاؤهم ذريته وأحبابه ، بل ربما أدخلته شهادة الناس الجنة يتنعم فيها ، أو أدخلته النار يُسعّر فيها ، لا أقول هذا من نفسي ، وإنما أقوله بناء على الحديث الصحيح الذي ورد في صحيح البخاري
عن أبي الأسود، قال: قَدِمْتُ المدينة، فَجَلَسْتُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَمَرَّتْ بهم جَنازة، فَأُثْنِيَ على صاحِبِها خيراً، فقال عمر: وجَبَتْ، ثم مَرَّ بأُخْرَى فَأُثْنِيَ على صاحِبِها خيراً، فقال عمر: وجَبَتْ، ثم مَرَّ بالثالثة، فَأُثْنِيَ على صاحِبِها شَرَّا، فقال عمر: وجَبَتْ، قال أبو الأسود: فقلت: وما وجَبَتْ يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أيُّما مُسلم شَهِد له أربعة بخير، أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة؟ قال: «وثلاثة» فقلنا: واثنان؟ قال: «واثنان» ثم لم نَسْأَلْهُ عن الواحد….صدق رسول الله صلى اله عليه وسلم