كتب…مجدي الشهيبي
يبدو أن الحديث في السياسة هذه الأيام لم يعد حكرًا على السياسيين أو الخبراء أو حتى المهتمين بالشأن العام فكل بيت في ديرمواس بات يضم محللًا سياسيًا من الطراز الأول وكل مقهى تحوّل إلى قاعة مناقشات وكل منشور على “فيسبوك” صار بيانًا انتخابيًا أو تحليلًا استراتيجيًا يسبق نشرات الأخبار الرسمية!
في جولات بسيطة داخل شوارع المدينة أو بين صفحات التواصل الاجتماعي تكتشف أن الجميع يتحدث في السياسة بثقة العالم ببواطن الأمور.
هذا يؤيد وذاك يعارض وثالث يتحدث عن “صفقات انتخابية” ورابع يقدّم “تحليلات ذهبية” عن مستقبل الدوائر والمقاعد والمجالس القادمة حتى تكاد تظن أنك وسط مركز دراسات سياسية لا في مدينة هادئة من مدن الصعيد.
لكن خلف هذه الحماسة الظاهرة يطلّ وجه آخر من المشهد لا يخلو من المفارقة إذ يجهل كثير من هؤلاء “المحللين الجدد” أبسط أساسيات العمل البرلماني أو الحزبي.
فمنهم من لا يعرف الفرق بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ ولا يفرّق بين صلاحيات كل منهما بل وربما يخلط بين مهام النائب ومسؤوليات عضو مجلس الشيوخ.
وإن سألت بعضهم عن معنى “مرشح مستقل” أو “مرشح حزبي” تجده يجيب بثقة غير متناهية لكنها في الغالب بعيدة عن الصواب!
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية فالمعرفة السياسية ليست ترفًا ولا مجرد “نقاش على القهوة” بل هي وعي ومسؤولية.
الحديث في السياسة يحتاج إلى حد أدنى من الفهم والاطلاع لا إلى الشعارات والضجيج.
ولعل أخطر ما في الأمر أن الجهل بالمعلومة الصحيحة يصنع رأيًا عامًا مشوّهًا ويزرع البلبلة بدل الوعي ويجعل الناس تهاجم أو تدافع دون أساس واضح.
في المقابل لا يمكن إنكار أن اهتمام الناس بالشأن العام أمر إيجابي في جوهره فالمشاركة في النقاش دليل على حيوية المجتمع واهتمامه بمستقبله.
لكن يبقى المطلوب أن يتحوّل هذا الاهتمام إلى وعي حقيقي وأن يدرك المواطن أن المشاركة السياسية لا تعني فقط الكلام بل الفهم، والبحث، والسؤال، والتمييز بين الحقيقة والشائعة وبين التحليل المنطقي والانفعال العاطفي.
والحقيقة المُرّة أن ما يحدث في ديرمواس اليوم ليس وعيًا سياسيًا بل ضجيج سياسي.
تحوّل النقاش إلى جدال والرأي إلى هجوم والمعرفة إلى “تريند”.
وأصبح كل من يملك حسابًا على “فيسبوك” يرى نفسه خبيرًا في الدستور والقوانين والانتخابات بينما في الحقيقة لم يقرأ يومًا مادة واحدة من قانون مجلس النواب!
إن أخطر ما يمكن أن يصيب أي مجتمع هو أن يتحدث الجميع في السياسة دون علم، وأن يختلط صوت الجهل بصوت الوعي حتى لا نعود نميز بينهما.
نعم نريد أن نتكلم في السياسة لكننا نريد أن نفهمها أولًا
نريد أن نشارك لكن بوعي لا بانفعال.
فالوطن لا يحتاج إلى مزيد من “المحللين الورقيين” بقدر ما يحتاج إلى مواطن يعرف دوره ويميز بين المعلومة والإشاعة وبين الانتماء الحزبي والمصلحة العامة.
وحتى ذلك الحين ستبقى ديرمواس مثلها مثل كثير من المدن المصرية ساحةً مفتوحة للآراء والتحليلات بعضها ناضج وأكثرها مؤقت…
لكن الأمل باقٍ أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه “القهوة السياسية” إلى “مدرسة للوعي” لا إلى “منبر للجدال”
![]()

