تحقيق: مجدي عاطف الشهيبي
يظل السادس من أكتوبر عام 1973 علامة فارقة في تاريخ الأمة العربية، يومًا تجلت فيه عزيمة المصريين وصلابتهم في مواجهة الاحتلال، وأثبت فيه الجندي المصري أن الإيمان بالحق والوطن قادر على قلب موازين القوى، مهما بلغت الفوارق في العتاد والتكنولوجيا.
في هذا التحقيق، نعيد قراءة واحدة من أعظم المعارك في التاريخ الحديث، من الهزيمة إلى النصر، ومن الانكسار إلى الكرامة.
سنوات ما قبل العبور (الإعداد والصبر)
عقب نكسة يونيو 1967 وجدت مصر نفسها أمام واقع مرير باحتلال سيناء، وخسائر بشرية ومادية ضخمة. إلا أن روح التحدي لم تمت، فبدأت مرحلة إعادة بناء الجيش المصري على أسس علمية حديثة، تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر ثم خلفه الرئيس أنور السادات، الذي حمل على عاتقه مهمة اتخاذ قرار الحرب.
خلال تلك السنوات، أعيد تنظيم القوات المسلحة، وتدريب الجنود على أحدث التكتيكات، كما تمت حرب الاستنزاف (1969-1970) التي أنهكت العدو وأعادت للمقاتل المصري ثقته بنفسه وبسلاحه.
العبور العظيم(لحظة النصر المنتظرة)
في تمام الساعة الثانية ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973، أطلقت صافرات الحرب.
نفذت القوات الجوية المصرية أعظم ضربة جوية في التاريخ الحديث، دمرت مراكز القيادة والمطارات الإسرائيلية في سيناء. وفي الوقت نفسه، انطلقت قوات المهندسين العسكريين لفتح الثغرات في خط بارليف باستخدام مضخات المياه، وهي فكرة مصرية عبقرية قلبت المعادلات العسكرية.
خلال ست ساعات فقط، تمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس ورفع العلم المصري على الضفة الشرقية، لتبدأ ملحمة القتال في عمق سيناء وسط بطولات لا تُنسى من الجنود والضباط.
( أبطال في الذاكرة)
يضم سجل حرب أكتوبر أسماءً خالدة صنعت النصر بإيمانها وشجاعتها:
الفريق سعد الدين الشاذلي، صاحب خطة العبور والتأمين.
اللواء محمد عبد الغني الجمسي، رئيس هيئة العمليات ومهندس إدارة المعركة.
الشهيد إبراهيم الرفاعي، قائد المجموعة 39 قتال، رمز الفدائية والعمل خلف خطوط العدو.
اللواء أحمد إسماعيل علي، وزير الحربية وقائد المعركة بتخطيطه الهادئ وحكمته السياسية.
كما لم يكن النصر عسكريًا فحسب، بل كان شعبياً شاملاً، شارك فيه المصريون جميعًا، من عمال المصانع الذين أنتجوا السلاح، إلى الفلاحين الذين دعموا الجيش بالمؤن، والنساء اللواتي قدمن أبناءهن فداءً للوطن.
( الأثر العربي والدولي)
غيّر نصر أكتوبر خريطة الشرق الأوسط. فقد أعاد الثقة إلى الأمة العربية بعد سنوات من الانكسار، وأثبت أن الوحدة العربية قادرة على مواجهة أي تحدٍ، خاصة مع الدور الحاسم لدول مثل سوريا التي خاضت معركتها في الجولان، ودول الخليج العربي التي استخدمت سلاح النفط لدعم الموقف المصري سياسيًا واقتصاديًا.
على الصعيد الدولي، كانت الحرب مفاجأة كبرى للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء، وأدت إلى تحول جذري في موازين القوى الإقليمية، وفتحت الباب أمام مفاوضات السلام التي أعادت لمصر كامل سيناء عام 1982.
( شهادات من قلب المعركة)
قال الراحل اللواء سعد زغلول عبد الكريم أحد المشاركين في الحرب:
“لم نكن نخاف الموت، كنا نعرف أن كل خطوة على أرض سيناء هي خطوة نحو الكرامة. كانت الحرب بالنسبة لنا حياة جديدة لمصر.”
ويقول المؤرخ العسكري جمال حماد:
“نصر أكتوبر لم يكن فقط انتصارًا عسكريًا، بل كان إعادة صياغة للتاريخ… لقد أعاد للعالم احترام الجندي المصري.”
ما بعد النصر( من الحرب إلى السلام)
بعد النصر العسكري، قاد الرئيس السادات مسارًا دبلوماسيًا شجاعًا نحو السلام، أسفر عن اتفاقية كامب ديفيد (1978) التي أعادت لمصر كامل ترابها الوطني. وبذلك تحوّل النصر العسكري إلى نصر استراتيجي شامل أعاد لمصر مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة.
نصر أكتوبر لم يكن مجرد معركة في سجل الحروب، بل كان ثورة في الوعي الوطني، أثبتت أن الشعوب قادرة على تغيير واقعها حين تؤمن بقضيتها.
لقد أعاد السادس من أكتوبر إلى المصريين ثقتهم بأنفسهم، وأكد أن الكرامة لا تُمنح… بل تُنتزع بالإرادة والتضحية
