كتب…راشد البلوشي
عندما قررت زيارة العتبة المصرية، كان لدي شعور من الترقب والتساؤل عن هذه المنطقة الحيوية في قلب القاهرة، والتي تمتاز بأنها واحدة من أكثر الأماكن ازدحامًا في المدينة، زرتها قبل 40 عاما أيام دراستي الجامعية؟
بمجرد أن بدأت المشي من شارع رمسيس بعد الإنتهاء من مراسم ختام الدورة التدريبية التي نظمتها جمعية الصحفيين العمانية بمقر جريدة “الجمهورية”بدأت المشي من شارع رمسيس بين البنايات الشاهقة القديمة ومحلات بيع قطع غيار السيارات ورائحة شرفات المنازل وأصوات الجيران وصراخ “عيال الحتة”، شعرت وكأنني قد دخلت إلى عالمٍ موازٍ، حيث تكتظ الأزقة والممرات بكل شيء الزبائن، التجار، السيارات، والبائعين المتجولين.
وما إن وطأت قدماي أرض العتبة، تساءلت….. لماذا هي واحدة من أكثر المناطق إزدحامًا في القاهرة؟ الشوارع ضيقة ومكتظة بالمتسوقين الذين يتنقلون بين المحلات الصغيرة والباعة المتجولين. الممرات مزدحمة بالأشخاص الذين يمرون بسرعة، يحملون أكياسًا من مختلف الأنواع، بينما الأصوات تتداخل مع بعضها البعض، أصوات تخرج من مكبارات الصوت وضعت على عربة الباعة الذين يروجون لبضائعهم، وأصوات السيارات التي تحاول المرور في طرقات مكتظة.
طرحت أسألة على نفسي لماذا لا تكون لهذه المدينة أكثر تنظيما؟
كانت الرائحة مزيجًا من العطور التي تخرج من القنينات المفتوحة للتجربة وبين روائح الطعام المشوي، والبهارات المنتشرة في كل زاوية. في كل خطوة، كنت أسمع صوت البائعين ينادون بأصواتهم المميزة، قائلين “تعال تعال.. بص وشوف العروض “أسعارنا مميزة، ما تفوتش الفرصة” كانت هذه الأصوات تملأ المكان، حتى أنها أصبحت جزءًا من الجو العام الذي يميز العتبة.
أشاهد البائعون كيف يتعاملون مع الزبائن بابتسامات وسرعة بديهة، يحاولون إغراء المارة بأن يقتربوا من محلاتهم. في الجانب الآخر، كان هناك المشترون الذين يتجولون بعينين متقدمتين، يبحثون عن عروض مميزة. كان هناك بعض الأشخاص الذين يقضون وقتهم في المساومة مع البائعين للحصول على سعر أفضل، بينما يكتفي آخرون بشراء ما يحتاجونه بسرعة.
أصبحت واحد منهم تقمصت الشخصية المصرية باللهجة المصرية والإسلوب المواطن المصري حتى لا أنخدع في السعر أصبحت مساوما من الطراز الأول، فأجدت فن المساومة ، أبحث عن لوحة مكتب فوجدتها مع أحد الباعة، سألته عن السعر فقال ” خدها ببلاش يا باشا عاوز كم حبايه؟
أصريت على تحديد السعر طلب 150 جنيه للحبة الواحد نزلت بالسعر “تجي 100؟ ما صحش يا باشا ، خلاص خدها 120جنيه تجي 110 جنيه .. خلاص ولا يهمك أنت غالي علينا … طب أعمل 3 لوحات … تمام يا زعيم.
غابت الشمس عن مدينة العتبة ولكن ظلت العتبة بأنوار شوارعها ومحلاته تضئ المكان وأزدادت الزحمة وتداخلت الأكتاف بعضها ببعض وكلمة “معلش” على لسان الجميع حتى ولو وقع شئ من يدك تبقى “معلش” هي السائدة في الإعتذار.
مع حلول المساء،تتغير العتبة بشكل كبير. تتحول الأضواء الساطعة للمحلات إلى نقاط ضوء ملونة في الشوارع المزدحمة. المطاعم والمقاهي تتفتح أبوابها على مصراعيها، وتنتشر رائحة الطعام المشوي والوجبات الشعبية في كل مكان. الباعة يقدمون الطعام في الشوارع،مثل”الفول والطعمية” و”الكشري”، بينما الناس يتجمعون على المقاعد الصغيرة في المقاهي والمطاعم لتناول العشاء.
لم تكن العتبة مجرد مكان للشراء فقط، بل كانت بمثابة محطة للحياة الإجتماعية، حيث يتجمع الناس بعد يوم طويل للإستمتاع بوجباتهم المفضلة وسط الزحام وعلى صوت أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ.
الحياة في العتبة تعكس نوعًا من التنوع والثراء الثقافي، حيث يجتمع فيها كل شيء. من الشوارع الضيقة التي يتنقل فيها الناس على الأقدام، إلى المحلات الكبيرة التي تبيع كل شيء من السلع الإلكترونية إلى الملابس العصرية. العتبة تمثل وجهًا من وجوه الحياة في القاهرة، حيث الصخب والإزدحام يجعلها مركزًا حيويًا لا يهدأ.
المشاعر التي تصاحبة زيارتي لهذه المنطقة هي مزيج من الإثارة والدهشة. تكتشف عمق الثقافة المصرية من خلال تفاعل الناس مع بعضهم البعض، ومن خلال رؤية الحياة اليومية المزدحمة التي لا تتوقف. وتظل في ذهنك الصور المتناقضة، الأشخاص الذين يسيرون بسرعة،السيارات التي تحاول العبور، والأصوات التي لا تتوقف.
زيارتي العتبة المصرية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ، تجربة لا تُنسى، مليئة بالحيوية والصخب، تعكس صورة حية لروح الحياة المصرية في قلب القاهرة.
راشد البلوشي
صحفي وكاتب