كتب…عبد التواب الجارحى
رمضان فى الذاكرة الشعبية المصرية
حكاية ليلة الرؤية
واستطلاع هلال شهر رمضان من دكة القاضى الى عصر التقنية والأقمار الصناعية
………………
ليلة الرؤية
من الطقوس والعادات التى يحرص المصريون على التمسك بإحياء بعض طقوسها احتفالا باستقبال شهر رمضان الكريم والاعلان عن بدء الصوم
طقوس وعادات ليلة الرؤية التى يحتفل بها المصريون فى التاسع والعشرين من شهر شعبان كل عام حيث تتم مراسم استطلاع ورصد هلال شهر رمضان طبقا لأمر الشرع الشريف وفق قول الله تعالى فى كتابه الكريم (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
وقول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشريف (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فان غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)
وكذلك لإرتباط الاشهر العربية بالعبادات كاالحج والصوم وزكاة الفطر والامور الفقهية الاخرى وقد كان العرب قبل الاسلام يستطلعون الأهلة ويتحرون بداية الاشهر العربية خاصة الحرم منها لتحديد الاشهر التى تتوقف فيها الحروب والخصومات والمنازعات بينهم
ومع مجيئ الاسلام وانتشاره بين العرب كان المسلمون يتحرون بداية الاشهر العربية ويستطلعون هلال رمضان فى اليوم التاسع والعشرين من شعبان بالعين البشرية المجردة يتوجه صاحبها إلى السماء بحثا عن الهلال من اماكن مرتفعة قبل غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شعبان الى دقائق من بعد المغيب ومع تطور الزمن وتقدم العلوم تم استطلاع الهلال باستخدام مناظير وحسابات فلكية وعلمية وإن ظل البعض متمسكا بتلابيب ومظاهر رؤية العين المجردة رغم ان الحسابات الفلكية والعلمية والأدوات التكنولوجية المستخدمة بالغة الدقة وهامش خطأها صفر
وفى صدر الاسلام كانت مهمة الرؤية واستطلاع الهلال توكل إلى الفقهاء باعتبارها فرض كفاية فيقومون باستطلاع الهلال والاعلان عن بداية الشهر
وفى مصر اسندت مهمة اسطلاع الهلال إلى القضاة
وأجمع المؤرخون على ان اول من استطلع هلال رمضان هو القاضى ابو عبد الرحمن عبد الله ابن لهيعة قاضى قضاة مصر عام 155هجرية الموافق لعام 771ميلادية وهو القاضى الذى تولى قضاء مصر بعد وفاة قاضيها ابو خزيمة غوث بن سليمان عام 155هجرية وقد ذكر ذلك الإمام السيوطى فى كتابه (حسن المحاضرة فى تاريخ مصر ولقاهرة )
حيث ذكر ان هذا القاضى ركب فى موكب ومعه القضاة الأربعة كشهود وصعدوا فوق سفح جبل المقطم لاستطلاع هلال رمضان
حيث نصبت لهم دكة تعرف بدكة القاضى
وظلت دكة القاضى علامة مميزة من علامات ليلة الرؤية وملازمة لاستطلاع الهلال وعاشت أزهى عصورها فى العصر الفاطمى حين امعن الفاطميون فى تزييناها وتجميلها وزخرفتها لاسيما ان الخليفة الفاطمى كان يخرج بنفسه مع القضاه على رأس موكب إحتفالى فى حال ثبوت رؤية الهلال مرتديا أفخم الملابس وحوله الوزراء وكبار رجال دولته وجحافل الجنود ليعلن بنفسه أول ايام الصوم ويقوم بتوزيع الصدقات
وعندما قام القائد بدر الدين الجمالى ببناء مسجدا له اعلى سفح جبل المقطم استخدمت مئذنته كمرصد لاستطلاع الهلال
وإلى الفاطميين يرجع سن مايعرف بموكب الرؤية والذى اصبح عادة استمرت في مصر طوال عصورها التاريخية اللاحقة
حيث كان يخرج قاضى القضاة فى موكب محاطا بالشموع والفوانيس لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود وكان يشارك فى الموكب المحتسب ورؤساء الطوائف وأرباب الحرف والصناعات وكبار التجار والمتصوفة وشيوخ الطرق الصوفية
وفى عصر المماليك نقل مكان الرؤية من منارة مسجد بدر الدين الجمالى بالمقطم الى منارة مدرسة المنصور قلاوون وظل موكب الرؤية هو هو حتى إذا ماتحققت الرؤية اضيئت الانوار فى الشوارع والمآذن والمساجد ايذانا ببدء شهر الصوم ثم يخرج قاضى القضاة فى موكب تحيط به جموع الشعب وحاملى المشاعل والفوانيس حتى يصل الى داره فتتفرق الجموع فى الشوارع والاحياء معلنة بدء الصيام ويتم ابلاغ الاقاليم والمدن النائية عن القاهرة بالحمام الزاجل
وكان اختيار القاضى لمهمة استطلاع هلال رمضان لما للقاضى من مكانة وثقة لد الشعب ولما للمناسبة من قدسية وتقدير فى حياة المسلمين
وفى العصر العثمانى عاد استطلاع الهلال الى سفح جبل المقطم مرة أخرى حيث كان القضاة الاربعة وبعض الفقهاء والمحتسب يجتمعون بالمدرسة المنصورية ثم يتجهون جميعا يتبعهم دراويش الصوفية وارباب الحرف ورؤساء الطوائف وكبار التجار الى مكان مرتفع بسفح جبل المقطم يترقبون ظهور الهلال فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين ايديهم المشاعل والقناديل الى المدرسة المنصورية ويعلن المحتسب ثبوت رؤية الهلال وبدء الصوم
واستمر الحال كذلك حتى مجيئ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون الى مصر والذى اراد ان يستميل المصريين الى جانبه ليضعف من مقاومتهم له ولحملته فكان اعلانه انه سوف يحتفل بالمناسبات المصرية الأسلامية التى يحتفل بها المصريون كمولد النبى ورؤية هلال رمضان وموكب الكسوة فلم يقتنع المصريون بدهائه ولم يشاركوا فى احتفالاته فا انصرف المصريون لمقاومته ولم يحتفلوا بروية هلال رمضان فى عهد سنوات الحملة الفرنسية الثلاث كما كانوا يحتفلوا بها من قبل
وفى عصر محمد على استمر الاحتفال برؤية هلال رمضان بمواكبه المعهودة فى العصر العثمانى من المدرسة المنصورية وسفح جبل المقطم
وفى عصر الخديو عباس حلمى الثانى نقل الاحتفال برؤية هلال رمضان الى المحكمة الشرعية بباب الخلق وفى عام 1895انشئت دار الافتاء المصرية واوكلت اليها مهمة استطلاع الهلال واعلان بد صوم رمضان وتعتمد فى مهمتها هذه حاليا على الاخذ بالتقنية الحديثة واستخدام المناظير والاقمار الصناعية والحسابات الفلكية والاستعانة بفكر ورأى وعلم المختصين فى معهد البحوث الفلكية والجيو فيزيقية وهيئة المساحة المصرية بجانب لجان الرصد بالعين المجرد من مناطق متعددة فى مصر منها توشكى واسوان والوادى الجديد وسوهاج وغيرها من مناطق المحافظات وعن لجان استطلاع الهلال حاليا يقول الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية ان اللجنة الشرعية المختصة فى هذه الشئون تتضمن فردا من دار الافتاء وفردا من معهد البحوث الفلكية والجيوفيزيقية وفردا من هيئة المساحة بالأضافة الى احد مسئولى المحافظة التى يتم فيها الرصد واستطلاع الهلال واحد علماء الازهر واحد علماء وزارة الأوقاف بجانب بعض المواطنين موضحا حال اثبت العلم ان الهلال ولد وسيمكث فى الافق بعد غروب الشمس فإن اللجان المختصة تتحرى بدقة وفى حال لم تراه اللجان على الرغم من انه موجود فإنه يتم حسم الأمر وفقا لها وليس للعلم مستشهدا بقول النبى صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )
وقبل عصر النت والفيسبوك كان لرؤية هلال رمضان فى مصر وعواصم أقاليمها طقوس شعبيةوتراثية خاصة وفرحة احتفالية كبرى يحرص عامة الشعب وطوائفه وحرفييه على المشاركة فيها أو مشاهدتها فى إطار الإحتفال باستقبال الشهر الكريم وقد شاهدنا كثير من مظاهرها فى مدينتنا (سنورس) فى باكورة صبانا ومراحل سنوات الشباب من عمرنا الذى ولى حيث كنا نحرص كل عام على مشاهدة موكب الرؤية بالتوجه إلى المدينة أمام بيت الثقافة المجاور لمركز الشرطة ومجلس المدينة ومحطة القطار قبل صلاة عصر يوم التاسع والعشرين من شعبان حيث يجتمع كبار القوم من مأمور المركز وحاكم المدينة وكبار رجال الدين ومشايخ الطرق الصوفية وغيرهم من وجهاء وكبار البلدة منتظرين خروج موكب الرؤية من أمام ديوان مركز الشرطة منطلقا إلى ميادينها والطواف بشوارعها الكبرى يتقدمهم ضابط شرطة كبير ممطيا جواده وخلفه عساكر السوارى على خيولهم والجنود والخفراء على الأقدام يتبعهم رجال الدين ومشايخ وأرباب الطرق الصوفية والدراويش براياتهم وأزيائهم وعمائمهم مختلفة الالوان فوق رؤوسهم يتقدمهم طبولهم ومنشديهم يتبعهم ارباب الحرف من الصناع والحرفيين والعمال من والتجار يتقدم كل فريق شيخ طائفته وحوله أبناء حرفته يحملون أدوات حرفتهم ونماذج لما يقومون بتصنيعه على عربات تمثلهم فى الموكب يتبعهم عامة الشعب والجميع تصاحبهم فرق الموسيقى والإنشاد والجميع يسيرون فى ابتهاج وسرور باستقبال الشهر الكريم يطوفون بميادين وشوارع البلدة كل منهم يردد اناشيد ونداءات طائفته ويتابع الموكب النساء من شبابيك البيوت والبنايات تغمرهم الفرحة باستقبال الشهر ويقوم أصحاب المحال والدكاكين التى يمر عليها الموكب بإلقاء الحلوى على الأطفال والصبية الذين يتبعون الموكب حتى اذا ما طافوا بالمدينة عادوا إلى نقطة البدء إلى بيت الثقافة بجوار المركز حيث يجتمع كبار القوم منتظرين إعلان الرؤية ثم بتفرق الجميع ويرجع كل منهم إلى حيث آتى (تلك بعض من ذكريات
من زمان ولى ومازالت ذكرياته عالقة بالخيال)
دمتم بخير وصحة وسعادة وأمن وسلام
وكل عام وحضراتكم جميعا بخير
وأسأل الله أن يبلغكم رمضان ويتقبل منكم صالح أعمالكم