تخيل طاولة بلياردو.. عليها كرة واحدة بيضاء..
وخمس عشرة كرة ملونة.. الكرات الملونة ثابتة ومرتبة بترتيب معين..
وهي بذاتها عاجزة ولا تمتلك أي حركة ذاتية..
الكرة البيضاء وحدها هي من تتحرك ..
يبدأ العد.. و تتحرك الكرة البيضاء لمرة واحدة فقط.
. وف هذه المرة تقوم بخلخلة مواقع كل الكرات الأخرى.. وتجعلها تتناثر ف كل إتجاه..
وكل كرة ملونة بدورها..
تصطدم بكرة ملونة أخرى تحركها و تتحرك..
الكل يتحرك بحسب قوانين نيوتن.. الفعل و رد الفعل.. إلى أن تتوقف كل الكرات عن الحركة بفعل الإحتكاك.. لنكتشف بعد الهدوء التام سقوط كرة واحدة في إحدى الحفر.. الكرة الزرقاء..
لو طلب منك تحديد الكرة أو الكرات المسؤولة عن إسقاط الكرة الزرقاء.. فهل بإمكانك فعل ذلك؟ لا شك أن الكرة البيضاء هي المسؤول الأول عن إسقاط الزرقاء كونها هي من بدأ الفعل.. لكن ليس مسؤولية كاملة.. هنالك كرات أخرى أيضا ساهمت.. و لتحديد مسؤولية الكرات الأخرى ونسبة مسؤولية كل كرة عن سقوط الكرة الزرقاء..
ربما تحتاج لإعادة الفيديو عشرات المرات و رسم مئات المسارات ومساعدة عالم رياضيات و عالم فيزياء وجهاز حاسوب.. وهذا كله إثر ضربة واحدة فقط من الكرة البيضاء.. أليس كذلك؟
الآن وسع التخيل.. وتخيل أن الكرة البيضاء إستمرت بضرب الكرات مرة تلو الأخرى.. وعليك حساب المسؤولية عن سقوط كل كرة.. وسعه أكثر .. و تخيل أن كل كرة من الكرات الملونة تملك حركة ذاتية.. تؤثر ف الكرات الأخريات.. وتتأثر بهن.. سينتج حينئذ تيار لا نهائي من الحركات العشوائية.. الكل يصطدم بالكل و الكل يغير مسار الكل..
هل يمكنك بعد عشر ثوان فقط من هذه الحركة الدائمة للكرات أن تحدد من فعليا المسؤول عن إسقاط كل كرة ؟ هذا طبعا من سابع المستحيلات..
حياتنَا ف الأرض شيء مشابه جداً لحركة هذه الكرات.. لكننا نتجاوز هذا النموذج البسيط البدائي لكرات متشابهة..
لنتحدث عن دنيا بأكملها.. دنيا متفاعلة و متشابكة بشكل إعجازي..
وفيها ملايين البشر الذي يختلفون بكل شيء تقريبا..
ويتفاعلون و يؤثرون ف حياة بعضهم البعض بشكل لحظي.. . أصغر حركة أو كلمة منك بحسن أو بسوء نية أو بجهل حتى.. تترك أثرًا ف حياة الآخرين..
إما ايجابيًًًًًا أو سلبياً .. وهذا الأثر لا يختفي.. بل ينقله الآخرون لآخرين.. والآخرون لآخرين.. وهكذا تصبح لديك متسلسلة لا نهائية من الأمواج و التأثيرات التي تشكل العالم من أول يوم فيه لآخر يوم فيه بحيث يصبح من الخرافة بمكان, مجرد محاولة معرفة من يؤثر ف من.. ومن يسقط من.. ومن ينهض من.. ومن يساعد من و من يضر من..
وهذا هو بإختصار مبدأ التأثير الذي أؤمن به…
ربما هذا الكلام مشابه لنظرية الفوضى و مفهوم تأثير الفراشة.. أي أن رفرفة جناح فراشة ف سيؤول قد تتراكم لتصبح عاصفة في الولايات المتحدة.. لكننى أسوقه هنا من منظور إنساني أولاً.. إجتماعي ثانيًا.. و ديني ثالثا..
لأننى مقتنع تمام الإقتناع.. أن مفهوم العبادة التي قصدها الله سبحانه ف قوله: “إلا ليعبدون”
هو يتحدث بالذات عن هذا المفهوم.. العبادة بمعناها الواسع الذي يتجاوز الفروض ليلامس مفهوم التأثير ف حياة الناس.. وما العبادات كفروض هنا إلا وسائل حماية و شحن للشخص ليؤثر ف محيطه.. لأن هذا التأثير هو جوهر العبادة و أس التكليف.. وهو الرابط الخفي بين العبادات و الإنسانية..
الذي يجعل العبادة بمفهومها الأعمق و الأشمل.. أبهى صور الإنسانية..
من أجل ذلك.. يجب أن تؤمن أن صلاتك وصيامك وحجك و عباداتك الفردية هي مهمة جدًا.. لكن مهمة لك أنت.. وتأثيرها محصور فيك أنت.. لكنها لا تؤثر ف الآخرين ..
لا سلبًا ولا إيجاباً .. لا تركاً ولا تأدية.. بقدر ما يؤثر فيهم تفاعلك معهم.. صدقك ف التعامل .. إبتسامتك.. صدقة أموالك.. كلامك الطيب.. حرصك ع أعراض و أموال و سمعة الناس.. مشكلة تفتعلها مع شخص ف الصباح قد تؤدي بالتراكم لطلاق زوجته مساء.. .. تشجيع صادق أو حتى
مجامل لطفل قد يغير كل حياته.. سرقتك لدور شخص ف معاملة حكومية قد تكلفه خصم يوم لو تأخر عن دوامه.. مبلغ بسيط قد يساعد طالب ليصنع مستقبله… نقد جارح لشخص أو سخرية قد يتسبب ف أذى نفسي يعكسه هو ع أطفاله .. كلمة أو نظرة ساخرة أو مزحة عن فتاة قد تحرمها زواج وزوج وأطفال.. إماطة حجر عن الطريق قد تمنع حادث.. والأمثلة أكثر من أن تعد وأن تحصى..
أنت ف النهاية.. كرة.. تتأثر بحركة الكرات الأخرى وتؤثر فيها.. ومهما ظننت أن تأثيرك ضئيل, ففي المقياس المطلق للأشياء هو تأثير عظيم.. وسينقله كل إنسان إلى آخر.. والعالم الذي نعيش فيه مكان سيء جدا.. مليء بالظلم و الحزن و القهر و الدماء.. و إمتحاننا الحقيقي فيه ليس أن نكسب أكثر من الآخرين.. أو نلبس ملابس أفضل منهم أو نسكن بيوت أكبر من بيوتهم…. كل هذه الماديات مهمة… لكنها مهمة كوسائل وليس كغايات.. وسائل لجعل هذا العالم مكانا أفضل مما وجدناه عليه لأنفسنا وللآخرين .. ولجعل الناس وأنفسنا.. أناساً أفضل.. وهذا هو الإمتحان الحقيقي الذي وضعنا فيه هذا الإله العظيم.. الذي له قدرة ع حساب تأثير كل كرة بدقة مثقال ذرة أو أقل ..
أعد قراءةحياتك ومفاهيمك ونظرتك لنفسك وللناس بناء ع مفهوم التأثير.. . وردددائمًًًًًًًًًًًًًا ف قلبك..
“وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا..( وَآثَارَهُمْ ۚ).. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ”[*]
.. وستعرف حينها لماذا لا يكون الحساب بعد الموت, بل بعد البعث.. لأن ذلك هو الوقت الذي تتوقف فيه الكتابة ف صحيفتك.. عندما تتوقف جميع الكرات عن الحركة…………(!)