مزنة المطر

بقلم…صباح المرشدي

في كل صباح اصحو مبكرا اقضي صلواتي واجلس ادعو ربي ثم اذهب لإعداد مشروبي الساخن واذهب لإجلس بجوار شرفتي احتسي مشروبي واتأمل إشراقات الصباح
واذا بمطر يمطر ويهطل بغزارة خارج شرفتى، يترامى صوته المخيف إلى أذنىَّ، بينما أرمى بصرى لأرى هامات البيوت المغسولة، فيرتد إلى التراب الموحل على جانبى الأسفلت وفى منتصفه، ويهز حشائش الحديقة المنسية أمامى. أتطلع إلى السماء الداكنة وأنا أتمنى لو شققت صدرى، وحملت قلبى ومددته ليغتسل، ويعود ناصعًا، فأسمع وجيبه يقول له فى تبتل:
لا يسمع وجيب قلبى ذلك الكلب الذى يجرى على غير هدى باحثًا عن ملاذ. كان أسود لا نصيب فى شعره لبياض أو أى لون آخر، بدا متوحدًا مع الوحل، بل أشد دكنة منه، ومن السحب التى لا تريد أن تسافر سريعًا إلى البلاد البعيدة، لكنه وحده الذى كان صامدًا فى وجه الزخات القوية التى تضربه من كل اتجاه.
وحدها الشجرة الواقفة عند الرصيف التى نادته، لكنه أدرك بعد أن لاذ بها دقائق أنها ليست هى القادرة على حمايته، فالمطر يتجمع فوق أغصانها، حتى يظن الواقف تحتها أنه قد توقف، ثم ينهمر شلالًا جارفًا، يضرب جسده الضامر، فيجرى نحو رافعة من صفيح، وضعها أحد أصحاب الأكشاك أمام واجهة تعرض بضاعته البسيطة، لكن الرجل الواقف خلف النافذة المفتوحة للزبائن زجره، وحين لم ينته، رفع عصا إلى جانبه وضربه بين أذنيه الطويلتين، فراح يدفع أرجله الأربعة نحو نهر الشارع من جديد، حتى وقف فى منتصفه، ورفع رأسه إلى أعلى، ليرى شيئًا بعيدًا هناك فى السماء الرمادية، جعله غير عابئ بالماء الذى يملأ عينيه. بدا أنه يرى ما لا يراه أولئك الذين تابعوه من الشرفات، وهو يطوح رأسه المرفوع إلى أعلى، فاتحًا فمه، ومحركًا لسانه، كأنه يكلم ذلك الذى يسمعه من خلف السحب الداكنة، والذى ربما لا يراه غيره فى هذه الساعة المطيرة.
لم يستطع سائق «العربة التي يجرها حصانا هزيلا » التقدم فى الوحل الذى يتوسط الشارع فأوقفه متضجرًا. التفت إلى السيدة البدينة التى تجلس خلفه، وقال لها: أنا موحول.
لم تفهم ما يقصد، فأوضح لها لا أقدر على التحرك من هنا.
عندها أدركت المأزق الذى وقعت فيه، فمدت عنقها من الفتحة اليمنى الموصولة بالشارع الضيق، فرأت السماء التى ينهمر الماء من رمادها المندفع إلى الأحياء الواقفة على الصخر العالى، ومنها إلى الصحراء الممتدة حتى ماء بعده رمل وحجر لا تبدو له نهاية أمام سحب تنزف حتى تموت فى الأفق البعيد.
زحزحت جسدها على مهل، لكن المقعد التصق بها، أو هكذا ظنت، وهى تحرك لحمها فى اتجاه الخارج، لكن عينيها لمحتا الوحل الذى يكسوه ماء، فعادت إلى مكانها، وقالت للسائق:
لا أقدر نظر إليها فى غضب، فقالت له:لا ينفع.
السائق نفسه لم يعد بوسعه أن يهبط من «العربة »، فالوحل المغمور بالماء سيبتلع نصف ساقيه. لهذا أعاد عنقه الممدود إليها، وقال لها: انتظرى.
ومدا بصريهما إلى الكلب الذى يتقافز من الوحل إلى اليابسة، وصاحب الكشك المستور بالصاج الذى يغطى رأسه، وذلك الواقف فى شرفته لا يرى من المطر سوى انطلاق السماء بالخير، وقال:سنبقى هنا.
رفع كفيه إلى السماء طالبًا منها أن تكف عن إرسال المطر، حتى لا يغمر الماء ويسقط حصانه البسيط الذى جعل الله رزقه معلقًا بأرجله الهشة.وجسده الهزيل
توالت زخات المطر قوية فابتلت أعشاش العصافير المعلقة فى أغصان شجر قليل يطل على الشارع من جانبيه. تساقط البيض الذى لم يفقس بعد، بعد أن تهتكت حوائط القش، التى لم تجد من يذود عنها، بعد أن انكمش صانعوها فى مكانهم باحثين عن ملاذ دون جدوى. واحد فقط من بينها، ربما كان أكبرها سنًا، خرج من العش المبتل، ووقف على طرف الغصن يقاوم الزخات القوية، ويرفع منقاره إلى السماء، لعله يتمكن من سحب كل المياه التى تنهمر، فيحمى عصافيره الخائقة هناك، خلف قش ملفوف يهتز فوق أغضان ترقص.
الأشجار المشبعة بعوادم السيارات وحدها التى تضحك فى وجه الذين يكابدون من المطر. تهتز فى ريح تداعب قطرات ماء تنهمر غزيرة من سماء غريبة، نافضة عن نفسها كل هذا الوسخ الذى نالها على مدار شهور من الركود والبلادة والزناخة، وناظرة إلى مدى يختنق ولا يعيرها أى اهتمام، وتبتسم فى وجه أولئك الذين نظروا إليها من النوافذ، ونسوا وجودها بعدما ألفوه طويلًا.
يغسلها المطر فتنجلى، تتمدد ضلوع أغصانها، ويزدهى ورقها، فيعود إلى أصله، ويكون بوسعه أن يمد روائحه المطمورة إلى أنوف الذين عوقهم المطر عن الذهاب والإياب، وأولئك الذين يستمتعون به من الشرفات، لكنه لا يقدر على الرفرفة فى ريح راحت تهدأ، إلا إذا شعر الذين ينظرون إليه أنه موصول بعالم آخر، وأن كل ورقة هنا ترفرف فى مجرة كاملة هناك.
الريح المخنوفة بين الرماد والطين لا يمكنها أن تتمطأ فى هذا الماء المنهمر. لكنها ترقبه فى صمت، حتى يهدأ. تندفع إلى أعلى فتزجى السحاب ليمرق بعيدًا عن المكان، لكنه يرقد ويركد، وتحبس الأنفاس التى تتابعه من أدنى الأرض شهيقًا وزفيرًا راجية أن ينجلى، لكنه لا يستجيب. ويقول رجل لأخيه وهو يهم ليغادر مكانه تحت الشجرة التى يهزها الهواء فترمى رذاذًا فى وجه الواقف فى شرفته، ومزيدًا من الوحل إلى السائق وسيدته المتوعكة، فترثى لحالهما العصافير، التى يسمع الكلب صوت زقزقاتها الحزينة:
يبدو أنه مطر لا قبل لنا به. يتوه قليلاً، ويقول:
ـ حكى لى جدى أن مثله قد أتى فى صباه، ولم أصدقه يومها
وها أنا الآن اعيش لحظاته من خلال شرفتي
صباح المرشدي 12/11/2024

Loading

Ahmed El sayed

Learn More →